بعضهم تتغشّاه التنظيرات والقواعد المصمتة فيزن الأمور بميزان القواعد التي تعلمها، ولا يعلم من استثناءات قواعده سوى ما قالوه له وكتبوه، وكأنه لا مجال لاستثناءات أخرى! وكثيرٌ منهم لا يخلو من الهوى وطاعة السلطان الفاجر.
وبعضهم يغيظه لفظ الانتصار إذا لم يكن قد أنجزه هو أو كان شريكاً فيه ولو بكلمة، وكثيرٌ منهم كانوا شركاء في أصل الجريمة، وما زالوا!
تتركّز حملتهم اليوم على أمرين: نفي الهزيمة عن "إسرائيل"، ونفي الانتصار عن المقاومة في قطاع غزة؛ وتتركّز حجتهم على حجم الكارثة والدمار.
في البداية نقرّ بأننا خسرنا ولكننا لم نهزم!
كانت خسارتنا كبيرة في أرواح أهلنا، وفي جراحاتهم، وفي بيوتنا، وفي مرافقنا الخدمية، وفي أمكنة عملنا، وفي مصادر رزقنا القائمة.
نعم! أدركتْنا الكارثة، وكانت الفاجعة موجعة، ولا يمكن تعويض الأرواح أو الأعضاء الذاهبة!
قدّمنا لكم الاعتراف المطلوب!
لكنْ تذكّروا أننا لم نهزم؛ ولكننا أيضاً لم ننتصر الانتصار الحاسم، كان انتصارنا جزئياً، وهذا الانتصار الصغير أفرحَنا وأبهج أهلنا المنكوبين، وأشعرهم بلذة الانتصار، لذلك لم تجد أحداً يقف أمام فضائية مشبوهة يسبّنا أو يعرّض بمقاومة شعبنا!
شعر الجميع بأننا قاتلنا بشرف، وبذلنا الاستطاعة، وأعددنا العدّة، وأوجعنا عدونا، وبان للجميع أن عدونا يتوجع ويتألم ويصاب ويتأثر، فلم نعد نحن كما كنا: نُضرَب ولا نَضرب، نُقتَل ولا نَقتل، نُجرَح ولا نَجرح.
وعدوّنا كان واقعياً جداً إذ لم يعلن عن انتصارٍ حققه، فكثيرون منهم يقولون عن أنسفهم: هُزمنا، وآخرون يقولون: تعادلنا؛ وآخرون يقولون إننا حققنا بعض الأهداف الصغيرة، وتركنا الأهداف الكبيرة دون تحقيق؛ أما قومنا فهم مصرّون على إلحاق الهزيمة بنا.
لقد أجمع شعبنا على أننا انتصرنا، وشعر معنا الآخرون بذلك، ولولا تلك الأبواق السياسية الفلسطينية والعربية التي شاركت في أصل الاعتداء علينا لكان الإجماع تامّاً.
سأقول لكم كيف انتصرنا بلغة هندسية!
كان انتصارُنا مكوناً من خمسة طوابق وله سطح، وكان يمكن أن أزيدها لكنني ألزمتُ نفسي بمنطق الهندسة، وباختصار:
الطابق الأول : الطابق الاستراتيجي الأمني
فقد اخترقْنا استراتجية العدو الأمنية ألا يكون في خاصرة "إسرائيل" قوة عسكرية تشكّل تهديداً أمنياً، وها نحن في خاصرتهم، ولم يتمكّنوا من القضاء علينا أو نزع سلاحنا! بل أصبحنا واقعاً مزمناً له تمدّداته.
الطابق الثاني : الطابق السياسي
تعرّض عدونا لهزيمة سياسية، إذ عجز عن تنفيذ أهم مطلب على قائمة أولوياته وهو نزع سلاح المقاومة، وتمكين سلطة عباس في غزة لمواصلة سياستها في الضفة؛ كما انتزع الاتفاق قراراً إسرائيلياً بفك حصار قطاع غزة، والمشكلة أن من يواصل فرض الحصار هو سلطة محمود عباس الذي كُلّف بمتابعة الإجراءات التنفيذية لفك الحصار، إضافة إلى سلطة فرعون مصر السيسي.
الطابق الثالث : الطابق المعنوي
فلا يوجد صهيوني واحد يشعر بالانتصار أو الرضا عما جرى، بينما يشعر جميعنا بنشوة ما حققناه من إنجاز عسكري، وبات الجميع يلح على المقاومة أن تواصل استعدادها وتتقدم نحو مرحلة أخرى؛ كما حظينا بتضامن العالم كله معنا واتضاح قضيتنا في قلب العالم الظالم نفسه.
وظهر لنا أن المجتمع الصهيوني مفكّك وضعيف وغير مستعد لدفع ثمن الحروب، بينما كان مجتمعنا في قمة عطائه وصموده.
ورأينا كيف انفعلت الجماهير معنا حين رأتنا بمظهر الضحية الحر الذي يقاتل بشرف ولا يستجدي الشفقة والمساعدة، فمن كان يصدق أن تخسر إسرائيل مئات المليارات نتيجة سقوط حملاتها ونهاية نتائج علاقاتها العامة في أوروبا والأمريكتين وتظهر أمام العالم كدولة فاشية مجرمة تمارس إرهاب الدولة، وتظهر كواحدة من آخر الدول التي تمارس الاحتلال المباشر لأراضي شعوب أخرى بالقوة ؛ وتنتشر برامج مقاطعة مؤسسات الكيان في المنظومات الاجتماعية الأجنبية الفاعلة.
الطابق الرابع: الطابق القانوني
أصبح هذا العدو مُداناً إعلامياً ونقابياً وجماهيرياً في كل مكان على جرائمه، وتنتظر الإدانة أن تتحول إلى إدانة قانونية رسمية، وهذا الأمر لا يتأتّى إلا بطلب رسمي من سلطة عباس يأتي بعد انضمام فخامة دولته إلى اتفاقية الجانية الدولية.
الطابق الخامس: الطابق العسكري
أدرك العدو أن قدرته القتالية معدومة وأن ما يمتلكه هو القدرة التدميرية من خلال آلته الكبيرة، وهي سلاح خطير يرتد بكثرة استعماله على صاحبه سياسياً وقانونياً وإعلامياً، ويفجّر أزمات داخلية وإنسانية على المدى البعيد.
تمكنت المقاومة من تجريب بعض قدراتها العسكرية في مجال الصناعة العسكرية وفي مجال التكتيك العسكري، وعرفت أنها قادرة على تطوير إمكاناتها وقدراتها استعداداً لمرحلة مقبلة.
الطابق العالي: السطح المكشوف
أعطت المقاومةُ الدليل العملي على أن هزيمة إسرائيل ممكنة وأنها لا تحتاج جيوشاً جرارة بل حرب عصابات منظمة، وأن دخول الضفة الغربية في المرحلة المقبلة سيكون حاسماً.
عرفنا نقطة ضعف العدو القاتلة، فهو دولة لا تحتمل ظهورها بمظهر العاجز ولديها الكثير من الأرواح والمرافق والمصالح لتحميها في البر والبحر والجو.
وسرّ ضعف العدو هو في مجتمعه الضعيف غير المستعد إلا للفرار إلى بلده الأصليّ.
وعرفنا نقطة ضعف ثالثة لهذا العدو وهو نحن، فهذا العدو لا يمكنه التعامل مع قوة بشرية فلسطينية تعاديه بمنطق مقاوِمٍ وهي تعيش معه على أرض واحدة، فهذه الكتلة البشرية الفلسطينية في حالة التحام مباشر مع جمهور العدو، وهم رصيد هائل للمقاومة إذا تهيأت لها ظروف المشاركة الفاعلة في فعاليات المقاومة.
ولكن يجب أن نقول إننا تعرضنا لخيانة حقيقية من سلطة عباس ومن النظام العربي بقيادة فرعون مصر وحلفائه، فقد كشفوا ظهروا وأضعفوا موقفنا... وإذا كان ثمة مواضع قد خسرنا فيها فقد كانت آتية من طرف هؤلاء المجرمين.. ولولا ما فعلوه لكان انتصارُنا بطعم آخر..
عرفتم لماذا نشعر بالانتصار!
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- المركز الفلسطيني للإعلام