صورة رائعة تلك التي يرسمها المسلمون وهم يأتون إلى مكة أفواجاً، من كل حدب وصوب، ليقوموا بأداء فريضة الحج التي افترضها الله عليهم، ملبين نداءات التلبية التي تقر بوحدانية الله، وتفرده بالملك والعبادة، ومترفعين عن كل الفوارق والتقسيمات التي زرعها الآخرون، لينتظموا في بوتقة واحدة، ترفع راية موحدة، وتردد شعاراً واحداً.
في أيامنا هذه رغم كل التقسيمات والتفرقة التي طالت أبناء أمتنا، ورغم حالة التنازع والاختلاف التي استطاع أعداؤنا أن يزرعوها داخل الوطن الواحد، وبين أفراد الشعوب، إلا أن عبادة الحج – كغيرها من العبادات- ما زالت تبرز ذاك الوجه المشرق للأمة، الذي يعكس وحدتها واشتراكها في الدين والتاريخ والمصير.
وحدة يسطّرها ضيوف الرحمن، وهم يؤدون "بشكل جماعي" مناسك الحج المختلفة، يذهبون إلى عرفة، ومزدلفة، ومنى، ويطوفون في البيت الحرام، في مظهر تشعر النفوس بالفخر والعزة، وتحيي فيها أمل عودة المجد والانتصار.
عمل جماعي..
ركن الحج – كغيره من عبادات الإسلام- يأتي ليؤكد على أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن يعيش أفرادها في حالة من الانفراد والقطيعة، والعمل العشوائي الذي لا يمكن أن يؤتي أي ثمار تتناسب مع رغبات وطموحات الأمة، بل يؤكد على أن العمل الجماعي المنظم، يتماشى مع فلسفة الدين ومقاصده. فغالبية الأوامر التي جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية، جاءت بصيغة الجمع، لتشير إلى أن الإسلام يخاطب الفئة المسلمة كافة بكامل مكوناتها وعناصرها، حتى ينالوا التمكين والعزة.
"إذا كانت كثير من العبادات والشعائر تتم بشكل جماعي، فكيف يكون حال العمل على تحقيق مقاصد الإسلام في الحكم والنظام السياسي، ونشر العدل والمساواة وحماية الحقوق!!"
لذا، فإن الخطاب الديني الذي يقوم بمحاربة أي مظهر جماعي يقوم به أفراد الأمة، بدءاً من المسجد، وانتهاء بالسياسة، يتناقض مع النمط والسياق العام الذي رسمه الإسلام في أحكامه وعباداته، فالإسلام لا يمكن أن يحقق مقاصده وغاياته من خلال فرد هنا، وآخر هناك، وإنما بانصهار جميع الأفراد في بوتقة المجتمع المسلم الذي يسير إلى تحقيق المقاصد والغايات.
وإذا كانت كثير من العبادات والشعائر التي يطالب بها كل فرد من أفراد الأمة تتم بشكل جماعي، فكيف يكون حال العمل على تحقيق مقاصد الإسلام في الحكم والنظام السياسي، ونشر العدل والمساواة وحماية الحقوق واسترداد تلك التي سلبتها فئة من أفراده!!
إن العمل السياسي الفردي والعشوائي الذي يقوم به بعض الأفراد، يشبه إلى حد كبير حال من يصلون بشكل منفرد في مسجد يصلي فيه الكثير في جماعة واحدة، وهو لا يجلب إلى المنظر العام للعبادة إلا مزيداً من الفوضى والتخبط والعبثية، وهو نفس الأمر الذي قام به بعض من الإسلاميين حينما سعوا إلى العمل السياسي المنفرد في ظل تربص الآخرين بالجميع، وقاموا بتجاوز كثير من مظاهر الوحدة والتقارب في العمل الحركي والسياسي، بل وسعوا لإبراز مظاهر الضعف فيه، الأمر الذي أضر بهم جميعاً، وأصاب التجربة الإسلامية بطعنات عديدة.
وحدانية لا عبودية
الحج، هو عبادة ترسخ في النفس روح التوحيد والحرية، فلا وسطاء بين الناس والله، ولا "ولي أمر" يتوسط دعاءهم رغماً عنهم، بل يخلع المسلمون في تلبيتهم كل مظاهر الشرك التي يزرعها الحكام وأعوانهم، ليعكسوا في ذلك حقيقة الإسلام القائمة على تحرير النفوس والعقول من الخضوع لغير الله واتخاذ غيره سبحانه وتعالى إلهاً يعبد وإن لم تكن هناك طقوس خاصة لعبادتهم.
"الخضوع للمستبد، والدعاء له بطول العمر، وإشراكه بالولاء مع الله، بل وتقديم الخوف منه على الخوف من الله وعقابه، والحرص على إرضائه وأعوانه ولو بسخط الله عز وجل، شرك معاصر وإن سمي بتسمية مختلفة"
فالخضوع للمستبد، والدعاء له بطول العمر، وإشراكه بالولاء مع الله، بل وتقديم الخوف منه على الخوف من الله وعقابه، والحرص على إرضائه وأعوانه ولو بسخط الله عز وجل، شرك معاصر، وإن سمي يتسمية مختلفة، كما يقوم به البعض فيقولون هو طاعة لولي الأمر، متناسين أن الطاعة لا تكون في المعصية، ولا تكون بمحاربة شرع الله وقتل الداعين له.
إنّ من أسباب تراجع المسلمين في أيامنا، أنهم فصلوا بين القول والفعل، فهم يلبون بنداء التوحيد في الحج، ويرددون "الله أكبر" في كل صلاة يصلونها، إلا أن أفعال البعض منهم، تعكس خلاف ما يقولونه، وهو ما رفضه الله وأنكره على عباده المؤمنين في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2-3].
وحدة وتجمع
كم هو جميل ونحن نرى أولئك المؤمنين يلبسون ثوباً موحداً، لا فوارق بينهم ولا تمييز بسبب غنى أو جاه أو عرق أو لغة، فهم جميعاً متحدون توحدهم عقيدة التوحيد، وتشركهم تلك التلبية التي يصدح بها أولئك الموحدون أمام العالم أجمع.
ورغم ما أحدثه العالم من فرقة بين المسلمين، سواء بالتدخل الخارجي، أو عبر حكامنا ومن عاونهم، إلا أن الصورة ما زالت تحيي في هذه الأمة أمل التوحد، فكل الفوارق مصطنعة، وكل الحواجز هي حواجز وهمية لا حقيقة ولا وجود لها.
إن روح الوحدة ما زالت حية في نفوس الكثير من أبناء الأمة، رغم كل المحاولات التي تثنيهم عن الوقوف مع إخوانهم المسلمين في شتى البقاع والمناحي، وإن الحج كفيل بإحياء تلك الروح، والمسلمون يلتقون ببعضهم بعضاً دون حواجز، أو تأشيرات، أو منافذ حدودية تمنعهم من الالتقاء والاجتماع.
ولما تشكله وحدة المسلمين من خطر على أعدائنا، فإنهم ما زالوا يبثون سموم الفتنة والتفرقة بين أبناء الشعوب المختلفة، مستغلين كذب وافتراء كثير من الإعلاميين، وسذاجة بعض المصدقين، بحيث تعيش شعوبهم في حالة من الخوف من الآخر، ونوع من العداء مع البقية، مما يسهل من السيطرة عليهم، وإخماد روح الوحدة فيهم.
ختاماً.. إن الحج مدرسة، ودروسه عظيمة وكثيرة، تحتاج للتأمل والدراسة، ورسم الخطى والمناهج، في سبيل إحياء الروح المفقودة لهذه الأمة، ورفع شأنها، وإزالة الفوارق بينها، مما يعني تحقيق النصر، واستعادة المجد الذي ضاع منها عقوداً عديدة.