قهرتهم المقاومة وكادتهم وجعلتهم يعضوا على أناملهم من الغيظ. ولا عجب فقد كانوا يؤملون أن يشكل العدوان الصهيوني على قطاع غزة الجولة الأخيرة من استهداف قلب الأمة النابض ليصفوا لهم الجو ويحتفلوا جميعاً -جميع الشركاء في ذلك العدوان- بهزيمة نكراء لغزة ومقاومتها الباسلة، يحتفلوا بركوع غزة واستسلامها وخنوعها كما كانوا يخططون، ليرثوا من بعد ذلك الأرض وما عليها من جديد ليفسدوا فيها ويسفكوا دماء الصالحين المصلحين كما فعلوا في الماضي القريب بدءاً من مجزرة مسجد فلسطين عام 1994 ومروراً باعتقال أغلب قادة المقاومة ورجالها وتعذيبهم وقتلهم في معتقلات الأجهزة الأمنية، مبنى السفينة (المخابرات)، ومبنى المقر العام للأمن الوقائي بتل الهوا، والمجمع الرئاسي (المنتدى)، وغيرها من مقرات السلطة التي أشهرت السلاح في وجه أبناء شعبنا ولم ترفعه أبداً في وجه المحتلين، بل حاولت جهدها إجهاض كل انتفاضات شعبنا وثوراته في وجه المحتل وتحولت إلى رديف أمني له، يعتقل الشرفاء ويقتل المجاهدين وينشر الخوف والرعب والفساد وينسق أمنياً مع العدو ويسعى لترسيخ الانقسام السياسي والاجتماعي والمناطقي بين أبناء شعبنا بكل الوسائل.
لقد سجل تاريخهم المليء بالمخازي إقدامهم بأنفسهم على محاولات عديدة لإجهاض المشروع الجهادي المقاوم مذ وطئت أقدامهم أرض فلسطين لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، حتى إذا منوا بهزيمة كبرى في الحسم العسكري عام 2007، أقدموا على جريمة محاصرة غزة ضمن حلف إقليمي ودولي، وتزامن ذلك مع ارتكاب الفظائع بالضفة المحتلة، واستمروا في تأليب الشعب الفلسطيني للتمرد على قيادة المقاومة بلا جدوى، ثم تجرعوا غصة انتصار المقاومة وثباتها في حرب الفرقان عام 2009، وانتصارها في حجارة السجيل عام 2012. وخلال العدوان الهمجي الأخير على غزة ما كنت تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا حتى أن الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي تداولت منشوراً عن مفقود يدعى رامي الحمد الله لا يعلم شيئاً عن مصيره، في ظل غيابه التام عن مسرح الأحداث وامتناعه عن التعليق على ما يجري في غزة التي كان من المفترض أنها تقع ضمن اختصاصات حكومته التوافقية العتيدة!!
ولما وضعت الحرب أوزارها خرجت الألسنة من جحورها وعادت الوجوه العابسة لتملأ فضاءات الأثير صراخاً ونعيقاً وزعيقاً ونهيقاً في جوقة كالحة يقودها مايسترو أدمن قيادة أوركسترا بالية مهترئة لا تعزف إلا سيمفونية الهزيمة كي تغطي على ألحان العز والفخار لنصر الله المبين في غزة العزة، محاولة حرمان الأمة من الفرح بيوم عظيم من أيام الله قلّ نظيره منذ سنين خلت..
هم أولاء يهددون ويتوعدون أهل غزة الذين ردوا العدوان ومرغوا أنف المحتل بوحل الهزيمة الآسن، ووقفوا وقفة رجل واحد مع المقاومة وعضوا على جراحهم النازفة وصبروا على ما أصابهم في سبيل الله وما ذلوا ولا استكانوا لغير ربهم وخالقهم ومولاهم فكانت أيقونتهم وفي كل أحوالهم عبارة "حسبنا الله ونعم الوكيل". ومع أن المصاب جلل في الأنفس والأرواح والأموال إلا أنهم وقفوا بحزم وثبات وأعلنوها جميعاً بأنهم وكل ما قدموه فداء للمقاومة ترد العدوان وتكيل الصاع صاعين للعدو المتغطرس وتشفي بضرباتها قلوب المكلومين المصابين.
في المقابل خرج علينا رامي الحمد الله من جحره بعد أن صمت دهراً ليعلن بأنه "تلقى تحذيرأً للحكومة والبنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية أنه في حال دفع هذه الدفعات من الأموال لموظفي حكومة حماس السابقة في غزة فسيتم مقاطعة الحكومة". وأن "كل دول العالم ولم يتبق أحد لم يحذر أنه إذا دفعت هذه الأموال فسيتم مقاطعة الحكومة والشعب الفلسطيني" وأنه "إذا تم هذا الأمر، فإن النظام المصرفي الفلسطيني سيتعرض لإشكالية كبيرة تهدد الوضع الفلسطيني العام"!!
وتزامن ذلك التصريح مع ما تقيأه عزام الأحمد في وسائل الإعلام: (لسنا ملزمين بدفع رواتب موظفي غزة لأنهم "غير شرعيين"). فيما تولى محمود عباس وضع الموسيقى التصويرية الجنائزية المصاحبة لتلك التصريحات البائسة.. وما علموا بأن أهلنا في غزة ورغم شدة المعاناة خلال العدوان الهمجي كانوا يصبحون ويمسون بكل فخر واعتزاز على وقع رشقات الصواريخ وعمليات الإنزال خلف خطوط العدو والالتحام من مسافة صفر وخطف جنود وضباط العدو عبر أنفاق العز القسامية وعمليات الكوماندوس البحرية..
من كان هذا شأنه لا يمكن أبداً أن يقايض موقف عز وفخار بكل أموال الدنيا. وإن شعباً استوى الموت عنده مع الحياة لا ترهبه وعود الشيطان وجنوده وأعوانه بالفقر والفاقة وقد وكل أمره لله الغني الحميد. من التحم مع المقاومة وربط مصيره بها في ساعة العسرة حين زاغت الأبصار وبلغت القلوب والحناجر لا يمكن أبداً أن ينفض عنها وقد رأى ما وعده به ربه حقاً.
ومن عمّر بيوت الله حتى بعد قصفها وهدمها ولم يبال بأصوات القنابل والتفجيرات الصهيونية من حوله، لن يرهبه بالتأكيد زعيق المنافقين وتهديداتهم بقطع الرواتب عن غزة فصوت إمامهم في الصلاة يعلو ويرتفع على كل تلك الأصوات وهو يرتل: "ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون".