خرج الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، من مكة المكرمة، مهاجرًا إلى المدينة المنورة، ببضعٍ وسبعين نَفْسًا من المسلمين الأوائل، وبعد هذا التاريخ بنحو عقدَيْن ونيِّف من الزمان؛ كانت دولة المسلمين قد امتدت إلى ما وراء أطراف شبه جزيرة العرب؛ مسقطة دول الظلم والطغيان وعَبَد الطاغوت، في الشرق والغرب.
ولئن كان هناك فضل في ذلك لشيء، بعد فضل الله سبحانه وتعالى أولاً وأخيرًا؛ فقط كان للوسيلة التي اتبعها النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، في تربية وتنشئة الجيل الأول من المسلمين الأوائل؛ حيث كانت المجموعة التي هاجرت معه، هي التي قادت الدولة بعد ذلك، وبعد رحيل الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، إلى جوار ربه، مطلقة جيوشها لنشر نور الإسلام في العالم.
فأزالت عرش كسرى، وأسقطت دولة الروم، وكاسحة في سياق ذلك دول العمالة التي كانت تدعم الوجود الاستعماري لكلا الإمبراطوريتَيْن في بلاد العرب والمسلمين، مثل الساسانيين في بلاد ما بين النهرَيْن، والغساسنة في بلاد الشام.
وفي الإطار، يرى الكثير من علماء الاجتماع والمؤرخين، أن فترة العقد ونيِّف من عمر الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، حوالي 13 عامًا، كانت الأهم في عمر الدعوة، بالرغم من أنها لم تسفر عن إسلام سوى بضعة عشرات من الأفراد؛ إلا أن الوسيلة التي تم بها ذلك، والأثر العميق الذي أحدثته هذه الفترة، تجعلها تستحق هذه الأهمية.
"ركز النبي في المرحلة المكية على قضية التربية والتنشئة، بمختلف جوانبها، الأخلاقية والسياسية والمجتمعية، ولكن في إطار واحد أساسي، وهو الإطار القيمي الكُلِّي أو التأصيلي، اتساقًا مع طبيعة الإسلام كدين شامل"
ركز النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، في تلك المرحلة على قضية التربية والتنشئة، بمختلف جوانبها، الأخلاقية والسياسية والمجتمعية، ولكن في إطار واحد أساسي، وهو الإطار القيمي الكُلِّي أو التأصيلي، اتساقًا مع طبيعة الإسلام كدين شامل، يحمل آخر وأكمل تعاليم الإله الواحد الأحد، إلى الإنسانية كلها؛ حيث سعى إلى تأسيس فكري ومفاهيمي عميق ومتعدد الجوانب لعدد من الأمور، وغرسها في نفوس الرعيل الأول من المسلمين الأوائل.
على رأس هذه الأمور كان فهم المسلم لحقائق الوجود الكوني بشكل عام، والإنساني بشكل خاص، أي لماذا خلق الله تعالى الكون، ولأية غاية، وما هي القوانين التي تحكم العمران الإلهي في خلقه، وخصوصًا سُنن التدافع بين القوى المختلفة في هذا العالم، لاسيما في الإطار القيمي، بين الخير والشر، والحق والباطل، ولماذا خلق الله تعالى الإنسان، وأسكنه الأرض وسخر له ما في الكون.
والأهم، في نظر الكثيرين، كان التأسيس النبوي لقضية معالي الأمور في تفكير وسلوك المسلم من خلال التأكيد على ماهية مهام الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، والأمة المسلمة، في هذه الحياة الدنيا، وكلها من عظائم الأمور وجليلها.
هذا التأسيس المفاهيمي، كان له أبلغ الأثر في تغيير الشخصية العربية في ذلك الحين، بحيث يتم الاستفادة من الجوانب الإيجابية فيها، مثل القوة والبأس والصبر والكرم، وتعظيمها، وتحجيم السلبي منها، والقضاء عليه، مثل العصبية.
ثم تم توظيف التوليفة الجديدة في مسار الجهاد في سبيل الله تعالى، ونشر دعوته في أرجاء الأرض، مهما كانت العقبات، ومهما كانت التضحيات، مع ما قامت به المدرسة النبوية من تأسيس في صدد قضية مصير الإنسان في الدنيا والآخرة، وأن ما يفعله من خير أو شر، يجده حاضرًا عند الله عز وجل، وأن عِظَم الجزاء والعطاء من جانب الإله، يكون على عِظَم التضحية من جانب العبد، مع التقليل من شأن الدنيا ومتاعها، لحساب الآخر، دار المستقر والمُقام الأبدي، والتي هي بالتالي الأولى بالسعي من جانب الإنسان.
ورفد الأسلوب النبوي في التنشئة والتربية في هذا الإطار، مفرداته بالكثير من النصوص القرآنية، التي تتناول هذا كله، رسالة الإنسان في الأرض، وقيمة الجهاد في سبيل الله.
ومن بين هذه الآيات، آية "التَّوبة" الشهيرة التي يقول فيها رب العزة سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}، والتي نزلت في بيعة العقبة الثانية، في العام الثالث عشر للبعثة النبوية.
وهو ما أسس لسلوك الصحابة الأوائل رضوان الله تعالى عليهم، وما أتوا به من تضحيات قد لا يتصور إنسان عادي أن يأتي بها أحد من العالمين في هذه الحياة الدنيا، لعل كان أبسطها ترك المال والأهل والولد خلفهم في مكة المكرمة، والهجرة بدينهم لأكثر من موضع حتى استقروا في المدينة المنورة.
هذه العملية التأسيسية الشاقة، تمت من خلال وسيلة شديدة الأهمية، وهي ما يطلق عليه علماء التربية والاجتماع مصطلح المحاضن التربوية، أشهرها تاريخيًّا، كان جلسات دار الأرقم بن أبي الأرقم.
هذه التجربة كانت حاضرة تمامًا في ذهنية المؤسسين الأوائل لدعوة الإخوان المسلمين في الثلث الأول من القرن العشرين، وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا.
يعود ذلك إلى سبب شديد الأهمية، فالبنا ومؤسسو دعوة الإخوان المسلمين الأوائل، كانوا يسعون إلى إعادة خلق جديد للأمة، ليس بسبب انهيار دولة الخلافة الإسلامية قبل ذلك بسنوات قليلة فحسب؛ وإنما- وللدقة- للأسباب التي أدت إلى انهيار دولة الخلافة.
ومن ثَمَّ؛ فإن الرعيل الأول لدعوة الإخوان المسلمين، درسوا عددًا من الأمور الكُلِّية في هذا الإطار، وعلى رأسها كيف بدأ الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، في تأسيس الأمة من نقطة الصفر.
"كانت جلسات دار الأرقم محل نظر واعتبار، وكانت هي الأساس النظري والعملي الذي قامت على أساسه محاضن التربية والتنشئة الاجتماعية والقيمية عند الإخوان بمختلف صورها، من أُسَرٍ وكتائب ومعسكرات، وغيرها"
فكانت جلسات دار الأرقم محل نظر واعتبار، وكانت هي الأساس النظري والعملي الذي قامت على أساسه محاضن التربية والتنشئة الاجتماعية والقيمية عند الإخوان المسلمين، بمختلف صورها، من أُسَرٍ وكتائب ومعسكرات، وغير ذلك.
هذه المحاضن لعبت أبلغ الأثر في عدد من الأمور شديدة الأهمية، على رأسها الإبقاء على جوهر الإسلام، الأخلاقي والقيمي، حيًّا في نفوس الجيل الجديد من المسلمين، الذي بدأ ينشأ في ظل غياب دولة الخلافة، في مقابل تأثير قوى الاستعمار والأنظمة الاستبدادية العلمانية التي بدأت في السيطرة على الدولة القومية الوليدة في العالم العربي والإسلامي.
وبالتالي، فإن هذه المحاضن، التي حرص القائمون عليها أن تشمل أنشطة فكرية وعملية في ذات الآنٍ، حافظت على هوية الأمة حاضرة في ذهنية الجيل الجديد والنشء المسلم في كل مكان، مع اتساع رقعة انتشار دعوة الإخوان المسلمين، كما حافظت على حضور القضايا التأسيسة المطلوبة من كل مسلم، ومن الجماعة المسلمة بشكل عام، وعلى رأسها نشر الدعوة، مهما كانت العقبات والتضحيات، وهي كبيرة.
ولعلنا لا نكون مبالغين لو قلنا إن جلسات الأُسَر والكتائب وغيرها من الأطر التربوية داخل دعوة الإخوان المسلمين، هي أساس الكثير من الأمور التي غيرت خريطة العالم السياسية.
"التربية الإسلامية الصحيحة، بما فيها التنشئة الفكرية والقيمية والأخلاقية هي التي تقف وراء الصمود الحالي لمقاتلي القسَّام في وجه الكيان الصهيوني المجرم، وهي التي أسست من قبل للأجيال التي تحدَّت قوى الاستكبار والاستعمار الظالم"
فالتربية الإسلامية الصحيحة، بما فيها التنشئة الفكرية والتأسيس القيمي والأخلاقي هي التي تقف وراء الصمود الحالي لمقاتلي القسَّام في وجه الكيان الصهيوني المجرم، وهي التي أسست من قبل للأجيال التي تحدَّت قوى الاستكبار والاستعمار الظالم في السويس، وفي أفغانستان، وفي العراق، ووقفت أمام قوى الظلام والإجرام في البوسنة والهرسك والشيشان، وغيرها من بقاع العالم الإسلامي التي عانى فيها المسلمون من إجرام الآخرين.
فهذه المحاضن التربوية، هي التي غرست سمات الصمود والفداء والتضحية، وأصَّلت أمورًا عِظَام في نفوس النشء الجديد، أهمها الإيمان الكامل بأن كل ما يملكه الإنسان هو من عند الله تعالى وفضله، حتى روحه ذاتها، وأن ما يضحي به الإنسان في سبيل الله ودعوته؛ إنما هي تجارة رابحة مع الله عز وجل، وهي أهم قيمة ينبغي تأسيسها عند المسلم، في إطار تهيئته للقيام بفريضة الجهاد، والتي هي ذروة سنام الإسلام، كما قال الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وتبعاتها الجِسَام على المسلم في كل شأنه، حتى أعز ما يملك، وهو ماله وأهله وولده.
وفي الأخير؛ فإن المحاضن التربوية ومرتكزات التنشئة الاجتماعية والأخلاقية في جماعة الإخوان المسلمين، هي تجربة نبوية في القرنَيْن العشرين والحادي والعشرين الميلاديَّيْن.
ومن ثَمَّ؛ فإن دراسة نتائجها في صيانة هوية المجتمع المسلم، وإبقاء قضايا الأمة حاضرة في ذهنية الأجيال الجديدة، في مواجهة التشويش والباطل السياسي والإعلامي، لهي كلها أمور شديدة الأهمية ومن واجب الوقت في ظل الحملة المسعورة الحالية على كل ما هو قيمي وأخلاقي وسياسي إسلامي.