الدين كركيزة أساسية في حضارة الإسلام وسنن العمران (1-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » الدين كركيزة أساسية في حضارة الإسلام وسنن العمران (1-2)
الإسلام.6jpg

هناك مجموعة من القوانين الربانية الثابتة التي تحكم صيرورات العمران البشري والتطور الحضاري، هذه القوانين فيها عدد من الحتميات التي قدرها الله عز وجل، على الإنسان في حياته، على المستوى الخاص، وعلى المستوى الجَمْعي العام؛ لا يمكن تجاوزها.

تلكمَ هي حقيقة بديهية لا يمكن إنكارها، في ظل ما أبرزته القرون المتطاولة الماضية من أدلة عليها، تمثلت في سُنن صعود وانهيار الحضارات والأمم الإنسانية المختلفة، استخلصها المؤرخون وعلماء الاجتماع والاجتماع السياسي.

هذه القوانين التي كان المسلمون هم أول من فصَّلها وتكلم عنها، وخصوصًا ابن خلدون وأساتذته العِظام، مثل ابن أبي الربيع، وغيرهما، اعتمدت على مصدر مهم من مصادر المعرفة التاريخية، وهو القرآن الكريم، بالإضافة إلى تحليل ما نقلته كتب الأولين والمؤرخين اليونان والمصريين ومن حضارة بلاد الرافدين؛ حول الأمم السابقة، وكيف ظهرت، وكيف سادت، وكيف اندثرت.

ولكن، ومثلما كان الإسلام ناسخًا لما قبله من تشريعات ومناهج، باعتباره دين الله، الخاتم، الذي بعث به محمدًا "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، لعباده كافة، وكان مجددًا لعقائد الإنسان التي بدلها المبدلون، طيلة القرون التي سبقت بعثة الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وللجوانب الروحية والأخلاقية لدى البشر؛ فإنه أيضًا رافق نزوله، الكثير من المتغيرات التي قدَّرها الله عز وجل على عدد من سننه وقوانينه في خلقه.

فنزول الإسلام، بدَّل من قانون إهلاك الأمم الكافرة والمنحرفة عن منهج الله تعالى، وذلك لأن دين الله عز وجل قد وُضِعَ دينه الشامل الكامل في الأرض، إلى آخر الزمان، حتى عندما يأذن رب العزة سبحانه وتعالى برفع الإيمان من بين ظهرانييي البشر، ورفع القرآن الكريم من الأرض.

كما فرض الله تعالى بعض التغيير في القوانين والسُّنن العمرانية المتعلقة بأمة الإسلام، فيما يخص عوامل صعودها وضعفها ودوالها، ولن نقول زوالها؛ لأن أمة محمد "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، باقية إلى أن يأذن الله تعالى برفع الإيمان من الأرض.

ويعود ذلك إلى أن أمة الإسلام هي أمة التكليف، وبالتالي؛ فإن عليها الكثير من الواجبات ومعالي الأمور التي يجب أن تقوم بها، من أجل تحقيق الرسائل الأهم من خلق الإنسان ونزوله إلى الأرض، وعلى رأسها عبادة الله عز وجل، وحده لا شريك له، وإقامة شريعته في أرضه، وإنفاذها بين عباده، وذلك تحريرًا للإنسانية من ربقة العبودية لغير الله تعالى، وإخراجها من ظلمات جهالة الروح والعقل، والمادية الوحشية، إلى ساحات النور البيِّن، والرحمة والأخلاق.

ولقد فرض ذلك الكثير من الاختلاف في قوانين صيرورات وحركة الحضارة الإسلامية، عن تلك التي تحكم باقي الحضارات الإنسانية، سواء التي سبقت ظهور الحضارة الإسلامية، أو تزامنت معها، ولم تدخل في دين الله عز وجل بعد.

أهم هذه القوانين هو ذلك المتعلق بعوامل الارتقاء والصعود، والتراجع والدوال، التي تحكم الحضارات الإنسانية ما بين أمة محمد "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، والأمم الأخرى.

فالأمم الأخرى، تحكم حضاراتها قوانين الأسباب، بنوعَيْها، المادية والمعنوية، ويعود ذلك إلى عدد من الأمور التي قدرها الله عز وجل، باعتباره العدل، ويعني ذلك أن الله عز وجل لا يبخس الناس أشياءها، وما دام قد عملوا، حتى ولو كفروا؛ فإنه لن سبحانه، يترهم أعمالهم.

"القانون الأساسي لسيادة أمة الإسلامية أو تبعيتها، هو مدى التزامها بالأساس بتعاليم دين الله عز وجل، والسنة الرئيسية للقيام والاستمرار لهذه الأمة، هو مدى تعلقها بالدين بمعناه الشامل والعميق"

أما أمة الإسلام، فإن القانون الأساسي لسيادتها أو تبعيتها، صعودها وهبوطها، هو مدى التزامها بالأساس بتعاليم دين الله عز وجل، والسُّنة الرئيسية للقيام والاستمرار؛ هي التعلق بالدين بمعناه الشامل والعميق، والذي يقدِّم مناطات التكليف على ما عداها، وهي العقل والحرية.

وأدلتنا في ذلك عديدة، فمن القرآن الكريم، يقول الله تبارك وتعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سُورة "البقرة"- الآية 126].

هناك يتعهد الله عز وجل برزق المؤمن والكافر على حد سواء، من رزق الدنيا المادي، أما فيما يتعلق بعظيم الأمور، من تكليفات ودعوة لدين الله، وإمامة الناس وهَدْيِهم؛ فإن الله تعالى يصطفي من عباده لها من يشاء، ومن هو على قدر هذه المسؤولية.

ففي ذات السياق الذي جاءت فيه الآية السابقة، يقول الله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}، هنا جعل الله تعالى النبوة وفضل أستاذية وسيادة العالم، لمن آمن فقط.

وتدل هذه الآية على أن هناك اختلاف كبير في تصاريف الله عز وجل في خلقه، بين الأمم المختلفة، ما بين أمة مؤمنة، وأخرى كافرة ظالمة لنفسها.
وقبل التفصيل في هذه النقطة؛ فإنه ثَمَّة ملاحظة هنا، يجب التأكيد عليها، وهي أهمية الدين في حياة الإنسان المسلم، وفي حياة كل إنسان صحيح الفطرة، بل إن الدين جزء من الفطرة البشرية نفسها.

ففي المجتمعات الإنسانية البدائية، التي لم تصلها بعد رسالة الحضارة الإنسانية؛ نجد أن أهل هذه المجتمعات، يخلقون لأنفسهم دينهم الخاص، ويجعلون له المرجعية الأساسية في حياتهم، وتسير أمورهم وفق ما يتصورون أنه تعاليمه.
وهو أمر موجود في كل المجتمعات الإنسانية، حتى الوحشية منها وفق ما توصل إليه علماء الأجناس أو الأنثروبولجي؛ حيث هناك دائمًا- على الأقل- فكرة "القوة أو القوى الغيبية" التي تحكم حياتهم، والعالم من حولهم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …