على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء، رفع الله قدرهم، وعظَّم شأنهم، هم في ظل الرحمن يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، علاقتهم كالبنيان المرصوص؛ يشد بعضهم بعضاً، كل النّاس يوم القيامة أعداء إلا هُم، هي أسمى علاقة عرفتها البشرية، بل هي أوثق عُرى الإيمان، إنها علاقة الأخوة في الله.
أخي لك في قلبي محبة لا يعلمها إلا ربي، فأنت قطعة من جسدي، ولائي ولاؤك، وروحي روحك، تعارفنا فتآلفنا، تفاهمنا فارتقينا، تكافلنا فرفع قوينا ضعيفنا، اجتمعنا على المحبة في الله والتقينا على طاعته وهداه، لا حسد بيننا ولا بغضاء "إنما المؤمنون إخوة"، أخوة تعلو فوق أخوة الدم بلا أب ولا أم.
ولـي إخوةٌ في القـلبِ سُكْنَاهُم مَحلُــهُم عَيْني والله يرعَـاهُم
سكنتم فؤادي وروحي ومهجتي لكم في كل يومٍ دعوتي ومسرتي
أخي في الله دعني أهمس في أذنك كلمات، فمن حبي لك كتبت، ومن حرصي عليك نصحت، وإني غائب عنك لا بد مفارقُك، لعلي ألقاك على سررٍ متقابلين في جناتٍ وعيون، فطريقُ السالكينَ لذلك طويلة، فهذه حقوقي عليك وواجبي لك، فاسمع مني بأُذُنِ قلبك :
الهمسة الأولى: أخي ...علاقتي بك تجاوزت الزمان والمكان، فلا مصلحة دنيوية جمعتني معك، ولا مغنم من علاقتي بك، فجمعني بك طاعتك لربي، وأحببتك لخلقك الطيب الدمث، فلا تقطعنَّ حبال الود بالجهر بالمعصية، فإن ذلك يؤذيك ويؤذيني، وحافظ على سيرتك الطيبة العطرة مهما تغيرت عليك الظروف والأحوال.
الهمسة الثانية: أخي.. التمس لي عذراً إن أخطأت في حقك، فالأقوال والأفعال حمّالة وجوه، فاحمل قولي وفعلي على خير محمل، فإني لا أريد بك إلا خيراً، ولا أحب أذيتك، واعذرني إن قصرت في واجبٍ عليَّ لك، فإني ضعيف لا طاقة لي على تأدية كل واجباتي، ولعل بعض الأعذار من الحياء؛ لا تذكر، فلا تنتظر عذراً مني لكل تقصير، فقلبك كبير، وظني أن ثقتك بي فوق كل سببٍ وعذر، يقول الشافعي- رحمه الله-: "مَنْ صَدَقَ في أُخوَّة أخيه، قَبِلَ علله، وسدَّ خلله، وعفا عن زللِه".
الهمسة الثالثة: أخي ... من حقي عليك حفظ غيبتي، فلا أظن أنك قادر على لوك لحمي ميتا، فلا تؤذي روحي وجسدي، فكن عني مدافعاً وعن عرضي منافحاً فأنا ضعيف وبك قوي، وكلِّي معايبٌ لو تتبعتها ما آخيتني ولا أحببتني، فلا تذكرني بسوءٍ، واستر عليَّ عيوبي إن ظهرت، ستر الله عليك في الآخرة، وأحسن الظنّ بي فسوءُ الظنّ غيبةٌ في القلب، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:"مَا ذُكِرَ أَخٌ لِي بِغَيْبٍ إِلَّا تَصَوَّرْتُهُ جَالِسًا، فَقُلْتُ فِيهِ مَا يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ لَوْ حَضَر".َ
الهمسة الرابعة: أخي... إني إنسان، ومن طبيعتي النسيان، فلا تبخل عليَّ تذكيري بطاعة ربي، فإني بأمس الحاجة إليك، حاسبني وأدِّبني، فيحق لك ما لا يحق لغيرك، وصِّني بالحق وادفعني للصبر عليه، فالتواصي بالحق والصبر من شيم المؤمنين، َقَالَ عطاء: "تَفَقَّدُوا إِخْوَانَكُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَإِنْ كَانُوا مَرْضَى فَعُودُوهُمْ أَوْ مَشَاغِيلَ فَأَعِينُوهُمْ أَوْ كَانُوا نَسُوا فَذَكِّرُوهُمْ".
الهمسة الخامسة: أخي ...لي عليك إهداء النصيحة إذا رأيت مني عيباً، فأنت مرآتي، فلا تكن لي مجاملاً مُداهناً توهمني أنِّي على خير، فلا تصبرنَّ على مثلبةٍ فيَّ حتى أُفضح بين الخلق، بل سارع لنُصحي وتذكيري، فإني مغرور أظنّ نفسي على خير، والشيطان يزين لي عملي، فكُن لي ترساً أكن لك رمحاً، فقد رُوِيَ:"أَنَّ مَثَلَ الْأَخَوَيْنِ مَثَلُ الْيَدَيْنِ تَغْسِلُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى".
الهمسة السادسة: أخي... من حقّي عليك في حالة ضَعْفِي وفقري كفَالَتِي، فلا تَتْرُكني لقُطّاع الطُرق والوحوشِ تْنهَشُ من لحم وجهي، ولا تنتظرنّ منِّي أنْ أمُدَ يدي، بل تفقّدني وأحسِنْ إليَّ من غير أنْ تُشْعرني، ولا تمنّ عليَّ فذلك يؤذي فؤادي وروحي، فلا تدعني أقف موقف العاجز المستجدي، فأنت أخي ومحل حسن ظني.
الهمسة السابعة: أخي... قد أختلف معك في مسألةٍ أو طريقةِ عملٍ، فلا يحملنَّك ذلك على هَجْري وإساءة الظنِّ بي أوالطعن فيَّ و تسفيه رأييِّ ، فقصدي الوصولُ للحق، فعملت بما ظهر لي من زاوية نظري، فلعلّ الله فتح على ذِهْنِكْ ورَأيْتَ ما لا أرى مِنْ زاويتِك، فوسِّع صدرك لي، ولطريقة تفكيري، فإنك تُوَسِعُ صَدْرَكَ لرأيِّ الكافر الجاحِد، فاختلاف الرأي لا يُفْسِدُ في الود قضية.
الهمسة الثامنة: أخي من حقي عليك الدعاءُ لي في ظهر الغيب، فدعوتك لي هي دعوةٌ لنفسك، فلا تنساني في حياتي أو بعد مماتي، ففي الحديث:"مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ" [ رواه مسلم].
الهمسة التاسعة:أخي... أحبَّ لي ما تحب لنفسك؛ من خير ترتجيه أو شرٍ تتقيه، فذلك من كمال الإيمان، ولا تدفعنَّك الأثرة وحب الذات على حسدي فترجوا زوال النعمة عني، فتسبب لي الضرر لتحقيق منافعك وشهواتك، فذلك منافٍ لصفات المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [رواه البخاري ومسلم]
وأخيراً... لقد امتنّ الله علينا بالأخوة في الله فقال: جلَّ وعلا ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:103]، وألّف بين قلوبنا بفضله، قال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:63]، فلنحافظ على أُخوَّتنا واستمرارها بصيانة الحقوق فيها والقيام بالواجبات، فكم من مضيِّعٍ لحقوقِ إخوانِه باتَ بعد زمنٍ بلا إخوانِ، ولله در الشافعي إذ يقول:
سَــــلامٌ عَلى الدُنـــيا إِذا لَـم يَكن بِـها صَـديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفا.