"إِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" بهذه الكلمات وصف نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم شريعة الإسلام التي أنزلها الله عليه؛ والله عز وجل يقول في كتابه الكريم:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ {[البقرة:185]، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة."
ومنذ زمن الفقه القديم والفقهاء مختلفون في الفتاوى ومدى الترخص أو التساهل فيها وهو ما يسمى بين العلماء "الأخذ بالأيسر" وبين من يرى بوجوب أو أفضلية "الأخذ بالأحوط"؛ وهي كما ذكرنا قضية خلافية؛ إلا أن نصوص الشريعة تدل على الأخذ بالأيسر وليس الأحوط.
ففي الصحيحين وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه"، وحينما بعث عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن أوصاهما قائلاً: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا" وروى عنه صاحبه وخادمه أنس هذا الحديث المتفق عليه، قال للأمة جميعا "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".
يقول سفيان الثوري: (إنما العلم عندنا الرخصةُ من ثقة ، فأما التشديدُ فيحسنه كل أحد).
" الأخذ بالأيسر إنما يكون بوجود الدليل المعتبر وليس لمجرد الهوى، واختلاف العلماء وحده ليس دليلا بحد ذاته، إنما يؤخذ ويرد رأي العالم بناء على دليله الشرعي"
وهنا يجب التنبيه إلى قضية مهمة وهي أن الأخذ بالأيسر إنما يكون بوجود الدليل المعتبر وليس لمجرد الهوى، واختلاف العلماء وحده ليس دليلا بحد ذاته، إنما يؤخذ ويرد رأي العالم بناء على دليله الشرعي، فلا يجوز مطلقاً البحث بين الفتاوى وآراء العلماء عن الأسهل والأيسر وتتبع الرخص فيه، فهذا مما لاشك فيه مروق من أحكام الشريعة.
وأما المسلم الحصيف هو الذي يعلم جيداً أن التشديد أو التساهل في الأحكام ليس هو التعبد، والأصل أن المسلم الذي يريد أن يتشدد فعليه أن يتشدد في تعبده وفي سلوكياته التربوية والإيمانية فها هو النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول له السيدة عائشة: "لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا" [متفق عليه].
قال الشوكاني في نيل الأوطار: ( الحديث يدل على مشروعية إجهاد النفس في العبادة من الصلاة وغيرها ما لم يؤده ذلك إلى الملال، وكانت حاله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الأحوال).
وقال ابن بطال في شرح البخاري: (قال المهلب: فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، وذلك له حلال، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبدا شكورا" فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا؟ فمن وفق للأخذ بالشدة فله في النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأسوة).
فهنا إذا نظرنا من منظور الشريعة يعلم المسلم جيداً أن التشديد في الأحكام وتناولها أو حتى إفتاء الناس فيها ليس مقصودا، ونستطيع أن نلمح هذا في آيات كتاب الله عز وجل بعد أن فصلت الآيات في أحكام الطهارة حيث يقول تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} وكذلك في أحكام الصيام يقول {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، بينما كان توجيه الآيات والأحاديث النبوية إلى الاهتمام بتزكية النفس بقدر الاستطاعة والزيادة في العبادة، فنحن نرى أن أحد أول الفرائض التي فرضها الله على عباده كانت قيام الليل {يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا}.
"على العاملين في الحقل التربوي الالتفات إلى المعاني التربوية الحقيقية وعدم التعنت والتشديد الفقهي الذي قد يترك أثراً سلبياً على الأفراد"
ومن هنا وخاصة العاملين في الحقل التربوي عليهم الالتفات إلى المعاني التربوية الحقيقة وعدم التعنت والتشديد الفقهي الذي قد يترك أثراً عكسيا وسلبيا لدى الأفراد، فمن الضروري توجيههم تدريجياً إلى معاني العبادات وأهمية العلاقة بالله سبحانه وتعالى وأن هذه العلاقة إنما تقوم على حقيقة ونية لا على حركات وأداء دون معنى، وأن الذي يطلب رضا الله ودخول الجنة إنما عليه أن يقدم حقيقة لله، أن يكون مؤمنا حقاً بأخلاقه وتواصله مع الله.
لهذا ليكن توجيهنا لهم بأن الذي يحب الله حقيقة يكثر من ذكره، ويتقن الوضوء ويقيم الصلاة؛ فقط لأننا نحب الله، وليس لكي نسقط الفرض الذي علينا.
وعلينا أن نفرق لهم بين أداء الصلاة وإقامتها، إقامتها على حقيقتها، إقامة معانيها، التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فما فائدة الصلاة التي لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر.
لقد جمد البعض ديننا وعباداتنا حينما جعلوا لها "كدليل المستخدم"، فيبقى المسلم الذي يؤدي عبادته خائفا من إفسادها بحركة أو خطأ غير مقصود، فينتقل من الالتفات للمعاني إلى أداء الحركات كما سمعها من شيخه أو معلمه، وليس هذا هو الدين، لأنه ما قيمة الصلاة التي تؤدى فقهيا بشكل صحيح، إلا أن صاحبها غائب عنها!!
ففي سنن أبي داود عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها إلا سبعها إلا ثمنها إلا تسعها إلا عشرها".
وفي الوقت نفسه ما قيمتها إن كان صاحبها ممن يؤذي غيره ومن حوله؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُلانَةُ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا، قَالَ:"هِيَ فِي النَّارِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُلانَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَاتِ، وَتَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا، قَالَ:"هِيَ فِي الْجَنَّةِ".
فعلينا توجيه أنفسنا وأولادنا إلى الالتزام التربوي وعدم التهاون فيه، وبنائهم على التطوع والزيادة في النافلة قدر استطاعتهم، فهذا من شأنه إيجاد الوازع وزرع مراقبة وخشية الله في النفوس، وهذا من شأنه أن يمنح المسلم الثبات على الحق في دين الله عز وجل.