هناك حالة أو ظاهرة أو سمّها ما شئت: إنه ما من مبدأ أو مذهب أو خبرة بشرية تنطوي على الحسن والرديء، وتتضمن في نسيجها شيئاً من الحسن، إلاّ ونجده في حالة مقارنته وتحليله مركوزاً في نسيج الإسلام. بمعنى أن كافة الخبرات الجيدة في التاريخ والتجربة البشريتين تلتقي مع الإسلام، وبمعنى آخر أن الإسلام يقدم للإنسانية بشكل جاهز ومعجز كل ما هو حسن في جوانب حياتها كافة، والتي لم تستطع التوصل إليه إلاّ بعد كدح طويل وهدر في الطاقات والأعمار.
بالمقابل فإن كل ما يبدو ناقصاً، مجتزأ، شريراً، مائلاً، حائداً عن الحق في المذاهب والخبرات جميعاً، يحذر منه الإسلام، ويحرمه، ويعلن الحرب عليه. ويبدو- بشكل من الأشكال – أن المعضلة الأساسية تكمن في نسب (الخلطة) إذا صح التعبير.. المساحات المعطاة لكل صغيرة وكبيرة في حياة البشرية، وبالنسبة المحددة والحدود المطلوبة والموقع الملائم والدرجة اللونية الصالحة.
إن الإسلام وحده من يفعل ذلك لأنه من علم الله سبحانه، الذي يعلم من خلق، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.. بينما في المذاهب الأخرى تتداخل النسب وتضطرب، وتزحف باتجاه بعضها، وتتجاوز حدودها المرسومة على حساب الأخريات، فتكون التخمة والحرمان، الشبع والجوع، الوجدان والانعدام، الأبيض والأسود.. ويكون الفرد أو الجماعة، العدل أو الحرية، الروح أو الجسد، الدنيا أو الآخرة، الأرض أو السماء، العلم أو الإيمان، المنفعة أو القيم .. الخ ويكون الميل والهوى والظن والفوضى والاختلال.
وبموازاة هذا، فإن شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي يمثل التعبير الكامل عن الإسلام، القرآن الذي يمشي على الأرض، تعطينا نموذجاً على توازن سائر القدرات والخبرات في الشخصية البشرية.. هل كان هذا سبب ترشيحه من (مايكل هارت) في (المائة الأوائل) ليكون على رأس أعظم الشخصيات المائة في التاريخ البشري؟
ولعل هذا التوازن والتكامل الباهر في نسيج الإسلام ما يجعل من الجرم الشنيع محاولة خرقه وإدخال الاختلال إليه، بهذه الطريقة أو تلك، بتغليب عامل على آخر، أو تجاوز مساحة على حساب مساحات أخرى، أو إسكات خفقة أو نبضة لكي يعلو على حسابها صوت من الأصوات.
إنه يبدو كما لو كان خطأ فادحاً؛ لأنه يميل بالموزون إلى الاختلال، وبالمتناسق إلى الاضطراب، وبالجميل الزاهي إلى المتنافر القبيح..
"العلمانية، في بدء التحليل ونهايته إنما هي سعي محموم لتحجيم الإسلام، لإلغاء مساحات واسعة من نسيجه والتضييق عليه، ودفعه دفعاً إلى الانكفاء في المسجد في محاولة لنصرنته، أي لجعله ديناً طقوسياً صرفاً لا يتعامل إلاّ مع العلاقة الفردية الخالصة بين الإنسان وربه.. وينسحب من مجرى الحياة الدافق لكي يهيمن عليه الطواغيت والوضّاعون والأرباب"
ويحاول أن يسحب هذه التجربة الباهرة لكي تنزل عن مستواها المتألق، فتحاذي هذه التجربة أو الخبرة أو تلك، من تجارب الناس وضلالاتهم وظنونهم وأهوائهم.
وهكذا يبدو مما شهده تاريخنا أحياناً، خطل تلك المحاولات المتشنجة التي مارست نوعاً من هذا الخرق: المعتزلة وهم يغلبون العقل.. الصوفية المنحرفة وليست الأصيلة القائمة على التوحيد، وهي تغلب الروح.. المتكلمون وهم يغلبون المقايسات المنطقية .. الفلاسفة وهم يغلبون الميتافيزيقا على الوجود... المرجئة وهم ينحنون لضغوط الواقع المنظور... الخ.
كما تبدو محاولة العلمانية في تاريخنا المعاصر منطلقة من الخطيئة نفسها، وهي السعي لتجزيء الإسلام، وتجاوز نسيجه الباهر المتوحد الملائم تماماً للإنسان.
ليس هذا فحسب بل إن العلمانية، في بدء التحليل ونهايته إنما هي سعي محموم لتحجيم الإسلام، لإلغاء مساحات واسعة من نسيجه والتضييق عليه، ودفعه دفعاً إلى الانكفاء في المسجد في محاولة لنصرنته، أي لجعله ديناً طقوسياً صرفاً لا يتعامل إلاّ مع العلاقة الفردية الخالصة بين الإنسان وربه.. وينسحب من مجرى الحياة الدافق لكي يهيمن عليه الطواغيت والوضّاعون والأرباب.
وهم يدخلون علينا بخبثهم ومكرهم من أبواب متفرقة، ويحاولون أن يغطوا على لعبتهم بإدعاء الحرص على سلامة الدين ونظافته وطهره من أن تلطخه وتمس بثوابته الأبدية أوحال السياسة، أو متغيرات الكشف العلمي القلقة النسبية، أو هدير المجتمع الصاخب الذي تحكمه المصلحة وتشكّله الدوافع المادية الصرفة.
إنهم يحاولون أن يجرّدوا الدين من قدرته على الالتحام بالحياة.. يمنعوه من إعادة صياغتها بما يريده الله سبحانه، وذلك بسحب يده من السياسة والعلم والممارسة الاجتماعية ودفعه دفعاً إلى أن يترهبن وينعزل عن الدنيا لكي تخلو لهم الساحات.
وإنها لجريمة مزدوجة يبدو أحد وجهيها في تشويه واجتزاء الصورة الحقيقية المتوازنة والمتكاملة والمدهشة لهذا الدين، ويبدو الوجه الآخر في إحلال معطيات الوضعيين محلها.. وهي معطيات أثبت الزمن على امتداده، قصورها وعقمها ونسبيتها وقلقها وظنيتها وعجزها عن تغطية مطالب الحياة على تشعبها وامتدادها..
وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى). [سورة النجم: 23].