انشغل الكثير من المتابعين في الأيام القليلة الماضية بالتعليق حول ذلك الفيديو الذي نشر على الإنترنت، والذي يتعلق بإقامة حد الرجم على امرأة يظهر أنها أقرت بقيامها بارتكاب الزنا بعد إحصان.
وتنوعت الردود بين الموافقة على ذلك بحكم أنه حد من حدود الله ثبت على امرأة مسلمة بالإقرار، وبين منكر لقيام "داعش" بتنفيذ العقوبة، لأنهم لم يفوضهم أحد بتنفيذ الحدود، وليست لديهم المؤهلات للقيام بذلك، في حين بالغ البعض بالاستنكار حتى وصل الأمر إلى إنكار عقوبة الرجم في الإسلام، ووصفها "بالوحشية" و "اللاإنسانية" وأن الإسلام منها بريء ولم يقم بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من صحابته!!
ومع بالغ الأسف، فإن الكثير ممن تصدوا لهذه المسألة لا يملكون أدنى مقوم من مقومات الحكم على هذه الأمور، وهذا راجع لافتقارهم للأسس والقواعد العلمية التي يستطيعون من خلالها التعبير بشكل علمي رصين ومتزن.
فلسفة العقوبة في الإسلام
تمثل الحدود في الإسلام جزءاً من منظومة العقوبات التي يصلح بها حال المجتمع، فبها تطهر النفوس وتنصلح أحوالها، وعن طريق إقامتها تتم حماية المجتمع من كل مظاهر إضعافه وانحلاله.
والعقوبات لم تشرع إلا لمنع الناس من الوقوع في الجرائم، لأن الأوامر والنواهي الصادرة عن الشارع الحكيم لا تكفي لمنع الناس من الوقوع فيها، وإلا أصبحت لا قيمة لها، ولهذا كان العقاب فيه نوع من الحفاظ على هيبة الأوامر والنواهي الواردة.
" العقوبة لا تعتبر إلا خطوة من خطوات الإصلاح الإسلامي للمجتمع البشري، بل هي الخطوة الأخيرة فيها، حينما لا تجد الخطوات السابقة أي تأثير أو مدخل لنفس العاصي أو المجرم"
لكن في الوقت نفسه، فإن العقوبة لا تعتبر إلا خطوة من خطوات الإصلاح الإسلامي للمجتمع البشري، بل هي الخطوة الأخيرة فيها، حينما لا تجد الخطوات السابقة أي تأثير أو مدخل لنفس العاصي أو المجرم.
فالإسلام قبل أن يشرع العقوبات والحدود، شرّع مبدأ التقوى، والخوف من الخالق، والحرص على النجاة من غضبه وسخطه وعذابه.
وإضافة لما سبق، فالشارع شرّع الكثير من الأمور التي تمنع وقوع المعاصي داخل المجتمع، فعلى سبيل المثال، وضع الإسلام كثيراً من الأمور لمنع وقوع جريمة الزنا، فشرع الزواج لمن يقدر عليه، والتعدد لمن يحقق العدل بين زوجاته، وأمر بغض البصر، وحرّم الخلوة بالأجنبية، وطلب من المرأة لبس الحجاب إن وصلت سن التكليف، وحرم عليها التبرّج والتزيّن، وغيرها من الأمور. بالإضافة إلى الخطاب التربوي المستمر والمتجدد، في كل مناسبة وموقف، والتأثر بالآخرين، من خلال وجود المؤمنين والأتقياء داخل المجتمع، والذين يمثلون القدوة الحسنة ويهدون إلى أفضل السبل وأقومها.
إذن ليس الهدف من الإسلام أن يطبق العقوبة أو الحدود لهدف التطبيق وتعذيب الآخرين، تماماً كما يفهم أنصاف المتعلمين والمتدينين، حيث يركزون على العقاب، دون النظر إلى كامل المنظومة الإسلامية التي تحمي المجتمع من الوقوع في براثن الفواحش والمعاصي.
" إن الإسلام حينما يقرر العقوبة يخوّف الأفراد من ارتكاب الجرائم المسببة لها، وحينما يوقعها على أحد، يكون بسبب تجاوز المكلف لجميع الحواجز التي وضعها للحيلولة دون الوقوع فيها"
إن الإسلام حينما يقرر العقوبة يخوّف الأفراد من ارتكاب الجرائم المسببة لها، وحينما يوقعها على أحد، يكون بسبب تجاوز المكلف لجميع الحواجز التي وضعها للحيلولة دون الوقوع فيها، وهو بالتالي يحمي المجتمع ويصون مصلحته العامة، ويحميه من انتشار المفاسد والتي تؤثر على النظام الأخلاقي والاجتماعي للمجتمع.
وفي هذا يقول الفقهاء: "إنها – أي العقوبات- موانع قبل الفعل زواجر بعده" أي العلم بشريعتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها بعده يمنع العود إليه".
وتأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه، وكما يقول الماوردي "تأديب واستصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب".
من الذي يوقع العقوبة
كما أسلفنا سابقاً، فإن العقاب يعتبر جزءاً من منظومة إسلامية كاملة تستهدف الأفراد والمجتمعات بالصلاح والصيانة، وحتى يكون تحقيقه متوافقاً مع هذه المصلحة العامة، فإنه لابد من أن يكون صادراً ممن بيده السلطة والحكم.
فالحاكم الذي يتولى شؤون الناس، وفق إرادتهم، عليه قبل إيقاع العقوبة، أن يوفر كل الحواجز التي تمنع من الوقوع في المعصية، تماشياً مع فلسفة التشريع ومقصده. وفي الوقت نفسه فإنه عند إقامتها، لا يؤثر عليه هوى أو محاباة، ولا يعارضه أحد، خصوصاً إذا كان دائم المشورة لأهل العلم ومعتمداً على رأيهم.
"لو أن كل فرد أو مجموعة من الناس، ملكوا السلاح هنا أو هناك، وقاموا بتطبيق الحد دون علم وإصلاح لحال الناس، لانتشرت الفوضى داخل المجتمع، ولكره الكثير من الناس أحكام الإسلام، بسبب تعنت أولئك وجهلهم في ما يحتاجه المجتمع"
ولو أن كل فرد أو مجموعة من الناس، ملكوا السلاح هنا أو هناك، وقاموا بتطبيق الحد دون علم وإصلاح لحال الناس، لانتشرت الفوضى داخل المجتمع، ولكره الكثير من الناس أحكام الإسلام، بسبب تعنت أولئك وجهلهم في ما يحتاجه المجتمع، تماماً كحال أولئك الذين يحصرون الإسلام في إقامة الحدود والعقوبات.
قال الجويني رحمه الله : " .. فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجح وأدفع للتنافس وأجمع لشتات الرأي. و في تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوه من الخبل لا ينكره ذوو العقل".
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية : " اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه، وذلك لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته، وانقياد الرعية له قهرا وجبرا، كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيمها على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود، وكذا خلفاؤه من بعده".
حد الرجم.. رفض أم قبول
لاشك أن الزنا أمر خطير وجريمة عظيمة، وقد قال تعالى :{ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} وهو اعتداء على نظام الأسرة، والتي يشكل الاعتداء عليها اعتداءً على خط أحمر في الإسلام، لأن الإسلام جاء ليحمي النظام الأسري، وجعل الحفاظ عليه مقصداً من المقاصد الضرورية فيه، بالإضافة إلى الدين والعقل والمال والنفس.
ولما يمثله الزنا من خطورة وفساد، كانت العقوبة فيما يتعلق على القيام به قاسية جداً، خصوصاً للمحصن، والذي يقدر قيمة العرض والشرف، وأهمية المحافظة على الأسرة، فشرع عقوبة الرجم والتي ثبت عن النبي صلى الله في الصحيحين وغيرهما أنه قام بها طهرة لأصحابها، وحماية للمجتمع وصيانة له.
ومع أن النصوص قطعية الثبوت والدلالة في السنة النبوية، إلا أن البعض يرفضها، ويبحث في أقوال شاذة لبعض العلماء هنا وهناك، ليؤكد هواه ورأيه، ويتجاهل النصوص ويضرب بها عرض الحائط رغم ثبوتها.
ولست هنا بصدد الرد على شبهاتهم، لكن للتأكيد على قاعد مهمة أقرها فقهاؤنا، وتتمثل بــأنه : "لا اجتهاد في مورد النص" فكيف إذا كانت هناك نصوص كثيرة ثابتة في البخاري ومسلم، وغيرها من كتب الحديث الشريف، اعتبرها بعض العلماء –كالبهوتي من الحنابلة- أنها تشبه التواتر!!
" قال الفقهاء بثبوت حد الرجم، حتى نقل أكثر من واحد الإجماع على ذلك، وإن كان هناك بعض أفراد شذوا عن هذا الإجماع، فلا يعني أن المسألة خلافية وينبغي الاختلاف فيها"
وقد حذر الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب، قبل موته بأيام، من إنكار حد الرجم، فقال رضي الله عنه: "إن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب. فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال، والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البته، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم" (متفق عليه).
ولهذا قال الفقهاء بثبوت حد الرجم، حتى نقل أكثر من واحد الإجماع على ذلك، وإن كان هناك بعض أفراد شذوا عن هذا الإجماع، فلا يعني أن المسألة خلافية وينبغي الاختلاف فيها.
وقد أسهب د. عبد القادر عودة – رحمه الله- في كتابه القيم " التشريع الجنائي في الإسلام" بالرد على من ينكر الرجم في الإسلام. فقال رحمه الله: ".. ويستكبر البعض منا اليوم عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وهو قول يقولونه بأفواههم ولا يؤمن به قلوبهم، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك".
وفي موضع آخر يقول : "..ويخشى البعض أن يكون في عقوبة الرجم شئ من القسوة، ولمثل هؤلاء نقول: إن الرجم هو القتل لا غير، وإن قوانين العالم كله تبيح القتل عقوبة لبعض الجرائم، ولا فرق بين من يقتل شنقاً أو ضرباً بالفأس أو صعقاً بالكهرباء أو رجماً بالحجارة أو رمياً بالرصاص، فكل هؤلاء يقتل ولكن وسائل القتل هي التي فيها الاختلاف" أ.هـ.