يبدو أن الربيع العربي لا يأخذ في طريقه الزعامات المهترئة فقط، بل وكل الأقنعة والأقلام والقنوات واللحى.
إننا نشهد تاريخاً يُكتب أمام أعيننا دون أن نستوعب تفاصيله الكثيرة، ودون أن نستطيع ملاحقة سرعته أو كشف التغيير الهائل الذي يحدثه.
لا تغتروا بما جرى في مصر من انقلاب، وما يجري في سوريا من محاولة إجهاض ثورة الشعب وإعادة تأهيل نظام الأسد، أو ما يجري في اليمن من سيطرة للحوثيين مع إجماع سكوتي عربي، وما يجري في ليبيا من محاولة نسخ عملية الانقلاب المصري على يد حفتر.
كل هذا سيفشل، لأن الربيع العربي أثبت أن التغيير المفروض هو تغيير مرفوض بالضرورة. وكل ربيعٍ متبوع بثلاثة فصول قبل أن يعود مرة أخرى…
لن تتوقف الثورات، وستأتي موجات ثورية جديدة، لا يشك في ذلك من يقرأ تأريخ الشعوب والثورات ويتعمق في قراءة الشروط الموضوعية لها من فساد وطغيان واستئثار وعمالة…
ما رأيناه منذ أحرق البوعزيزي نفسه وحتى اليوم -في رأيي- هو رأس جبل الجليد. والمدهش بالنسبة لي أن من كان ينبغي عليه أن يخاف ويحذر ويعمل على إصلاح نفسه كي لا تصله الثورة هو من يحاول اليوم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتجاهل كل ما حصل. تستطيع أن تعيد شريط الفيلم للخلف، لكنك لا تستطيع تغيير النهاية.
لعلي أكتب في مقال آت رأيي حول الثورة والثورة المضادة، ولماذا ستفشل الثورات المضادة.
لكنني كتبت هذه المقدمة كي يتمكن القارئ من الربط بين انهيار السلفية الرسمية الذي هو موضوع هذه المقالة الرئيس وبين سقوط منطق الثورة المضادة القائم على هذا النوع من السلفية.
أكبر الخاسرين من الربيع العربي بعد إيران هي السلفية التقليدية. وأعني بالسلفية التقليدية، السلفية الرسمية وتيار الجامية. وبين السلفية الرسمية والجامية فرق جوهري، فالسلفية الرسمية محافظة بطبيعتها وتعمل في إطار عقد شرعي بينها وبين الحاكم، وتحاول قدر استطاعتها الحفاظ على هذا العقد الشرعي ولو بتقديم بعض التنازلات الشرعية تحت بند الضرورات والألويات أحياناً.
وأما الجامية، فهي فرقة تنتسب للسلفية وتحاول دائماً ربط نفسها بالسلفية الرسمية من خلال التمسح برموزها التاريخيين والاستناد إلى فتاويهم التي يجري التلاعب بها وإسقاطها على خصوم الحاكم. الجامية أشبه بما تكون بحزب الرئيس، ذلك الحزب الذي يبرر لزعيمه كل ما يفعله ويعطيه غطاءً شرعياً، وفي طريقها تمارس السب والشتيمة والتشويه والتحريض والتخوين بالتحالف مع أذرعة السلطة وأدواتها.
السلفية الرسمية هي مثل مفتي الرئيس، بينما الجامية مثل كلبه. كلاهما يعملان في خدمة الرئيس في نهاية الأمر.
هل جنت السلفية الرسمية على نفسها؟
بالتأكيد. فمن سيحترم شيخاً سلفياً ملتحياً طالب الشعب الليبي أو التونسي أو السوري بعدم الخروج على حكَّامه الكفَّار القتلة الذين طغوا على شعوبهم وأفقروها وفتنوها في دينها وساموها ألوان العذاب؟
من سيحترم عالماً سلفياً يجيز الخروج على ولي الأمر المنتخب من لدن الشعب ويُحرِّم الخروج على ولي الأمر المُتغِلب؟
نعم، لقد جنت السلفية الرسمية على نفسها، بل وعلى السلفية بكاملها، ذلك المنهج الأصيل والصافي القائم على فهم السلف الصالح، فلم تبعثه من جديد بل اكتفت بتحنيطه والبناء عليه والطواف في فنائه، هي التي حرَّمت الغلو والبناء على القبور والطواف بها.
جنت السلفية الرسمية على السلفية بعامة حين لم تفقه الواقع ولم تدرك تداعيات فتاويها العابرة للقارات، ولم تقرأ التأريخ، ومن لا يقرأ التأريخ موعود بتكرار أخطائه.
من لا يقرأ التأريخ لا يعرف أن سبب سقوط الأندلس لم يكن ملوك الطوائف فقط، بل ومشايخ الطوائف وشعوب الطوائف الذين عجزوا عن رؤية الصورة الكبرى واكتفوا برؤية ما يريد لهم الحاكم أن يروه من بين قوائم كرسيه الأربع.
إنها لم تعبأ بمقتل 200 ألف مسلم سوري ولا عشرات الألوف من المسلمين جرى ويجري قتلهم في العراق وبورما وأفريقيا الوسطى، ولا تهتم كثيراً بحقيقة أن الشيعة الرافضة باتوا يحتلون اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وأن أمن بلد الحرمين بات مهدداً. إنهم غائبون عن الوعي تماماً. وحجتهم في هذه الغيبة الطوعية أن السياسة من شأن ولي الأمر وحده، ولي أمر ذلك القطر الذي يعيشون فيه.
والذي وضعت حدوده معاهدة سايكس بيكو. وبناءً عليه، فلا دخل لهم فيما يجري خارج تلك الحدود من قتل للأنفس المسلمة وانتهاك للأعراض المسلمة واعتقال للمسلمين والمسلمات، ولا شأن لهم بما يمارس على المسلمين من تطهير عرقي وطائفي غير مسبوق. كل هذا لا شأن لهم به، اللهم إلا أن رأى ولي الأمر عكس ذلك، حين تصبح له فائدة سياسية ما.
إن السلفية الرسمية تظن أن وضعها مقاليد الأمر والحكم والقرار -حتى تلك المتعلقة بالدماء والأعراض- في رقبة ولي الأمر يخرجها من تبعة ذلك يوم القيامة، فما لله لله وما للسياسة هو لولي الأمر فقط.
الغريب أنَّهم يزبدون ويرعدون حين يتحدث شخصٌ ما عن العلمانية التي تجعل ما لله لله وما لقيصر قيصر، رغم أنَّهم يغوصون فيها حتى تراقيهم. زد على ذلك أن تخليها عن القيام بمهامها يكشف إلى أي حد بات العقل السلفي الديني الرسمي متردداً وفاشلاً في المشاركة في عملية صناعة القرار.
لقد وضع الكثير من علماء السلفية -مع الأسف الشديد- أنفسهم عن جهل وسذاجة في خدمة السياسي وهم يظنون مخلصين أنَّهم يضعونها في خدمة الله.
لو كانوا على تلك السفينة التي ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّهم إن تركوا من في أسفلها يخرقونها لغرقوا جميعاً؛ لو كانوا على تلك السفينة لتركوا الأمر للكابتن حتى ولو كان أخرق، فغرقوا وتسببوا بغرق من معهم موقنين أنَّهم أدوا الذي عليهم، وأن موت الآخرين ليس سوى قضاءً وقدر .
بالمناسبة، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث بأن يأخذوا على أيدي من أسفلها كي ينجو الجميع، ولم يرد ذكر للكابتن في ذلك الحديث…
السلفية الرسمية تتعامل مع الحاكم كما لو أنَّه الخضر عليه السلام الذي لا يفعل شيئاً دون حكمة. فهو يخرق السفينة لحكمة، ويقتل شعبه في الميادين العامة لحكمة، ويسجن شعبه لحكمة، ويتحالف مع الكفار لحكمة، ويدعم الانقلابات العسكرية لحكمة، ويحاصر المسلمين لحكمة، ويسمح للرافضة بأن يتمددوا طولاً وعرضاً لحكمة. ما هي الحكمة، لا يهم. المهم أنَّ هناك حكمة، وكفى.
إنَّهم لا يرون الفتنة في كل هذا. ولا يرون الخطر على التوحيد في كل هذا. لكنهم يرون الفتنة في قيادة المرأة للسيارة، وفي عملها كاشيرة، وفي تركها للحجاب. ويرون الفتنة في آراب آيدول وفي مسلسل هنا وهناك وفي محاضرة دينية هنا وهناك… إنَّه ملعبها الذي تُحسن اللعب عليه، والذي يشعرها بقوتها وتمكنها وإرغامها لمخالفيها، دون أن تلحظ أنها تلاعب فريقاً من الدرجة الرابعة.
إن السلفية الرسمية تتناسى بجهل مريع آيات وأحكام التناصر والتكافل والتعاون بين المسلمين، تلك الآيات والأحاديث المحكمة الفوق-قطرية والتي تؤكد على الضرورات الخمس التي جاء الإسلام للحفاظ عليها. يتناسونها ويشغلون الأمة التي تذبح من الوريد إلى الوريد بتفاهات وسخافات تثير القرف.
قد لا يكون علماء السلفية إقطاعيين، لكنهم بكل تأكيد يوفرون غطاءً شرعياً للفساد والإفساد بجهلهم وسذاجتهم. وبالنتيجة فهم يلعبون دور السنيد للإقطاعي الحقيقي، الأمر الذي يشعر المتلقي أنه يشاهد شيئاً شبيهاً بما جرى في المسيحية من تحالف الإقطاعيين السياسيين والدينيين، ذلك الإقطاع الذي انتهى بالثورة على الدين والتوحيد، تلك الثورة التي أنتجت تقدماً في كل المجالات، وخصوصاً على مستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال وضعها في إطار عقد اجتماعي.
إنَّهم لا يعبأون عادة بما يظنه الإنسان العادي لأنه وفق مفهومهم جاهل بمصالح الأمة وغوغائي ومن الرعاع، دون أن يدركوا أن مصالح الأمة هي في جزء كبير منها هي مصالح مجموع الأفراد، شاءوا أم أبوا.
أتذكر كيف كانوا ينصحوننا بعدم الإغراق في السياسة، وإذا بهم اليوم يفصلون الدين عن السياسة. ليس فصلاً علمانياً يأخذ فيه كلا الطرفين حقه، بل فصلاً يُحقر من شأن الدين ويستخف بمشايخه ويوظفه ويوظفهم في صالح السلطة.
السلفية الحقيقية تئن وتتوجع اليوم من السلفيات الرسمية ومن تيار الجامية أكثر بكثير من خصومها التاريخيين. لقد جعلوا منها أضحوكة، في عالم تطوف فيه النكتة عبر وسائل التواصل الاجتماعية أسرع بكثير من طواف الحقيقة. لم تكن السلفية الحقيقية لتجيز الخروج على ولي الأمر، والسلفية الرسمية أجازته.
ولم تكن السلفية الحقيقية لتصمت عن قتل مئات الآلاف من المسلمين، والسلفية الرسمية صمتت. ولم تكن السلفية الحقيقية لتغض الطرف عن تمدد الشيعة الروافض الذين يقاتلون وعينهم على مكة والمدينة، والسلفية الرسمية غضت. ولم تكن السلفية الحقيقية لتسمح لأحد باستغفالها والركوب على ظهرها بدعوى الفتنة وذهاب التوحيد، والسلفية الرسمية سمحت.
السلفية الرسمية لا تمثل السلفية الحقيقية، السلفية التي سُجِن وجُلِد من أجلها الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وشوِّهت من أجلها دعوة المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً.
السلفية الحقيقية لا تعطي صكوكاً مجانية لأحد تحت أي بند أو ظرف، فهي تملك من الذكاء والوعي ما يمكنها من معرفة أن السلطة الفاسدة قد تكون ظل الشيطان أو ظل أي شيء سيئ آخر لكنها بالتأكيد ليست ظل الله في أرضه.
أما الجامية، فلها مقال آخر.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- التقرير