تُعتبر قضية العلاقة بين المسلم والقرآن الكريم من أهم القضايا التي يجب بحثها، ولئن كان هناك دليل على أهمية تلك العلاقة، بما تتضمنه من فهم من جانب المسلمين لتعاليم القرآن الكريم، ومتطلبات التعامل القيمي والحركي معها، إلا أنه من بين أهم المفردات الموضوعة في مخططات قوى الاستعمار العالمي التي تستهدف أمتنا، فصل المسلم عن القرآن الكريم، بكل ما يعنيه ذلك من معانٍ.
وعندما نطَّلع على حال المسلمين في وقتنا الراهن؛ فإننا سوف نجد أن هناك الكثير من الضبابية المحيطة بفهم الإنسان المسلم والجماعة المسلمة، للقرآن الكريم؛ حيث يقفون عند النص تلاوةً، انطلاقًا مِن أن مِن بين مفردات تعريف القرآن الكريم أنه "المُتعبَّد بتلاوته"؛ فيكتفي الكثيرون بمجرد قراءة النص، من دون التطرق لفهمه، أو النظر إلى ما يدعو إليه النص.
وهذا يعود إلى قصور لدى البعض في فهم عبارة "المُتعبَّد بتلاوته"، فهذه العبارة أرجعها بعض العلماء إلى أنها ترتبط بالحكم الشرعي الخاص بأن الصلاة لا تصح إلا بقراءة شيءٍ من القرآن الكريم، وأنه لا يُغني عنه غيره من الأذكار والأدعية أو الأحاديث، استنادًا إلى حديث الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يقول فيه: "لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" [متفقٌ عليه].
فوَقَفَ الكثيرون عند هذه الجزئية- وهي مهمة بطبيعة الحال لأنها حكم شرعي- ولكنهم لم يتقدموا إلى غير من ذلك مما يتعلق بالقرآن الكريم، ومراد الله عز وجل من عباده منه؛ أحكامًا وتعاليم، ورؤية منهجية للكون، تتسق مع قوانين الخلق الإلهي؛ لواحدية المنشِىء، وهو الله عز وجل؛ فهو الخالق، الذي وضع قوانين العمران البشري، والكون والوجود بشكل عام، وهو صاحب القرآن الكريم الذي تضمَّن شريعته عز وجل، وكيفية التعامل مع مفردات هذا الخلق، تبعًا لهذه القوانين.
ويقول الله عز وجل في كتابه العزيز، عن القرآن الكريم، في هذا المعنى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سُورة "القَصَص:85].
هذه الآية تدُل على حقيقة عقيدية مهمة، وهي أن ما ورد في القرآن الكريم من أوامر ونواهٍ، وكذلك رؤى حول حقيقة الإنسان ودوره ورسالته في هذه الدنيا؛ إنما هو فريضة على المسلمين، وليس الأمر كما يأخذه البعض كنصٍّ يُقرأ وكفى.
فالقرآن الكريم كتاب شامل للقيم المعنوية والجوانب الحركية في آنٍ، وكل ما فيه من تعاليم، هي فرائض على الإنسان، وأحكام عامة، وليست على سبيل المجاز، أو التخصيص الزمني أو الشخصي.
فهناك من يتعلل في بعض الأحكام، كالتي تخص الجهاد والقتال، أو تخص المرأة المسلمة وعفتها، بأن ذلك يخص الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وأصحابه، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، أو زوجاته، أو أنها أحكام تتعلق ببيئة زمنية أو اجتماعية معينة.
وذلك فهم خاطئ، ويخالف أمورًا عقائدية مهمة يجب أن تكون في صميم إيمان كل مسلم؛ من أن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى المتين، الصالح لكل زمان ومكان، ويحوي حكمة الكون، وشرعة الله عز وجل لعباده إلى يوم يبعثون، وفيه تعاليمه عز وجل، وما ينبغي أن يقوم به البشر.
وهي أمور أن تكون أمة التكليف بها أجدر، أمة المسلمين، من أتباع محمد "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، الذين عليهم مهمة هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن ذل العبودية لغير الله تعالى، إلى الحرية المطلقة، التي تعني العبودية لله وحده عز وجل، والتحرر من أغلال العبودية لغيره، بما في ذلك عبودية الحاكم، وعبودية المادة، وغير ذلك من صور العبودية المذِلَّة.
وفي هذا الإطار، فإنه من بين أهم التفاسير التي وضعت للقرآن الكريم حديثًا تفسير "في ظلال القرآن"، للإمام الشهيد سيد قطب، ذلك التفسير الذي حاول فيه صاحبه الوصول إلى جوهر القرآن الكريم، ومقاصد رب العزة سبحانه منه، والذي عنى كل آية وكل حرف من كتابه العزيز، ولم يُنزِّلُ أي حرف فيه عبثًا.
ولذلك فالظلال ثقيل الوطأة على نفس من يقرؤه للمرة الأولى؛ حيث يدرك المسلم أي تقصير هو فيه، سواء في الإدراك والفعل، تجاه كتاب الله، وحقيقته، وما تضمنه من حقائق عظمى حول الله تبارك وتعالى، وحول الكون، وحول دور المسلم في الدنيا، ومصيره فيها وفي الآخرة.
وكان ذلك تعامل الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، مع، لن نقول آيات القرآن، ولكن حتى مع كلماته وحروفه.
وهناك أكثر من موقف يؤكد ذلك، ومن بينها رد فعله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، على نزول خواتيم سُورة "يُونُس"، وتحديدًا الآية الرابعة والتسعين منها.
فبعد أن سردت السُّورة قَصَص الأوَّلين والأنبياء، واستعرضت بديع صنع الله تعالى في خلقه، وأدلة ربوبيته وألوهيته، وقصة موسى وبني إسرائيل مع فرعون وملئه وما تحتويه من عظات وقيم كبرى حول صراع الحق والباطل،؛ بدأت خواتيم السُّورة في توجيه العبرات والعظات، بالأسلوب القرآني المبدع المبين؛ الذي يملأ جوانب النفس والعقل رهبةً وخشية من الله الخالق الذي أنزل هذه الكلمات.
تبدأ الخواتيم من الآية (94)، يقول الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، أي فإن كنت يا محمد في شكٍّ من حقيقة ما اخترناك لننزله إليك، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك، قبل أن تُبعث أنت يا محمد، رسولاً إلى جميع خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم، في التوراة والإنجيل، من أهل التوراة والإنجيل؛ من أهل الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك منهم.
فماذا كان من النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، عندما سمع هذه الكلمات؟!.. يقول صاحب الظلال، سيد قطب، رحمه الله، إن الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لم يكن في شكٍّ مما أنزل الله إليه، وكما روي عنه "عليه الصَّلاة والسَّلام"، أنه قال عندما نزلت عليه هذه الآية: "لا أشك ولا أسأل"، وذلك بعد أن جاءه الحق.
هنا تعامل الرسول "عليه الصَّلاة والسَّلام" مع النص حرفيًّا إدراكًا منه لحقيقة مُرادات الله تعالى منه، وانطلاقًا من نظرة صحيحة للقرآن الكريم،.
فعندما قال الله عز وجل: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ... (الآية)"؛ أجاب الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" مباشرة بقوله: "لا أشك ولا أسأل"، وهو ما يعني أن الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، يدرك أن السؤال هنا مقصود، ويجب الرد عليه، وليس على سبيل المجاز، أو البلاغة اللغوية أو ما شابه.. هو سؤال مباشر من رب العزة؛ تطلب أن يكون هناك جواب من المسؤول، وهو هنا الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
كل هذه الحقائق ينبي عليها أمرٌ شديد الأهمية، وهو أن يكون القرآن الكريم، وشروحه، دعامة فهم المسلم، وتكوين إدراكاته في هذه الحياة الدنيا، في كل الأمور، وبالتالي يحدد سلوكه وحركته.
وبالتالي؛ فإن هذا يجب أن يكون له- بدوره- تأثيرًا على نفس المسلم؛ حيث يكون أكثر ثقة فيما يقوم ويفعل، وفي حتمية نصر الله عز وجل له، مع كونه يعمل ويقاتل في هذه الدنيا في جانب الحق، الذي لم ولن يعلو عليه الباطل أبدًا؛ عهدًا من الله عز وجل، قطعه على نفسه، ولينصرنَّ الله من ينصره؛ إن الله لقوي عزيز.