قال الله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران:13].
وقال الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
هذه مقالة فكرية اجتماعية، واقعية تاريخية، نستلهمها من أجواء غزوة بدر وفتح مكة وما جرى بينهما من أحداث، وما ترتب على ذلك، فيها دلالة واضحة على أن تغيير الواقع لا بد له من قاعدة صُلبة تشكلها الفئة المؤمنة بالفكرة، ثم تكبر هذه القاعدة الصلبة شيئاً فشيئاً لتشكل الكتلة الحرجة الخلاقة القادرة على إحداث التغيير.
هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه من المهاجرين عدد قليل يقارب المئة، واستقبله من الأنصار ما يقارب المئتين، فكانت نسبة المسلمين في المدينة في بداية العهد لا تتجاوز خمس المجتمع، ومع ذلك فقد كانت هذه الكتلة البشرية المتميزة - على قلتها - قادرة على إحداث تغيير اجتماعي جذري، تُسلم بموجبه القيادةَ إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك أيضاً فإن ذلك المجتمع الذي تأسس على قاعدة صُلبة من التربية، لم يستقر طوال خمسة عشر عاماً، وبالتحديد: لم يستقر إلا بعد معركة القادسية التي كانت مقدمة لزوال مملكة الفرس، مروراً بمعركة اليرموك التي أنهت وجود الروم على أرض الشام.
وباستعراض تاريخي سريع وعام يتبين لنا: أن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة لم يعرف الاستقرار؛ ففي السنة الثانية كانت غزوة بدر، وفي السنة الثالثة كانت غزوة أحد، أما حصار الأحزاب فكان في السنة الخامسة، ثم تبعه صلح الحديبية في السنة السادسة، وكانت غزوة خيبر في السنة السابعة، ثم جاء نقض صلح الحديبية فتبعه فتح مكة وغزوة حنين في السنة الثامنة، أما في السنة التاسعة فقد توجه المسلمون إلى تبوك في ظل ظروف صعبة جداً لمواجهة العدو المرتقب وتأمين الجبهة الشمالية للكيان الجديد.
هذا عدا عن المعارك الفرعية الأخرى، وعدا عن المشاكل والفتن الداخلية التي كان يفتعلها المنافقون واليهود، والتي كاد بعضها يودي بالمشروع والفكرة والكيان.
"في ظل الصراع بين المسلمين في المدينة والمشركين في مكة، بقي معظم العرب على الحياد، مشكلين كتلة بليدة صعبة الانحياز، حتى إذا انتصر المسلمون وفتحت مكة دخل هؤلاء العرب في دين الله أفواجا"
في ظل هذا الصراع بين المسلمين في المدينة والمشركين في مكة، بقي معظم العرب على الحياد، مشكلين كتلة بليدة صعبة الانحياز، حتى إذا انتصر المسلمون وفُتحت مكة دخل هؤلاء العرب في دين الله، متأثرين بهذا الإنجاز الباهر العظيم. هذا في عهد الرسول الكريم.
أما التحدي الأكبر للمشروع والكيان فتمثل في خروج الكتلة البليدة - التي خضعت متأخرة في معظمها - على الخليفة أبي بكر الصديق في حروب الردة؛ حيث كان التهديد كبيراً لدرجة أنه كاد يقضي على المشروع، ولم يستقر الأمر إلا في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –المؤسس الفعلي للدولة الإسلامية المدنية - بعد معركة القادسية.
ما نفهمه من ذلك: أن الجيل الأول كان مصراً على إقامة الكيان المستقل رغم التحديات ومحاولة الاستئصال، حتى تم الأمر بعد تربية دامت ثلاثة عشر عاماً في مكة، ثم تأسيس مجتمع أخذ يتلمس طريقه في خضم الصراع والتآمر خلال خمسة عشر عاماً.
بناء على ما تقدم نستنتج: أن التغيير يحتاج إلى قاعدة صُلبة تؤمن بالفكرة وتتربى عليها وتضحي من أجلها، ثم يحتاج إلى كتلة حرجة خلاقة يتحقق التغيير على يدها، وبعد ذلك سنجد أن الكتلة البليدة التي تشكلها الأغلبية المحايدة تبدأ بمناصرة الفكرة شيئاً فشيئاً حتى تستقر الأوضاع وينعمَ الناس بالحرية.
"يحتاج التغيير إلى قاعدة صلبة تؤمن بالفكرة وتتربى عليها وتضحي من أجلها، ثم يحتاج إلى كتلة حرجة خلاقة يتحقق التغيير على يديها"
وإذا أردنا إسقاط هذه الأفكار على واقعنا، فإننا نجد أن بعض بلاد المسلمين سقطت في الفوضى بشكل مخيف كالعراق والشام وذلك لثلاثة أسباب محددة:
1 ـ وجود نظام شمولي مستبد يقاوم التغيير بكل الوسائل المتاحة.
2 ـ إمكانية تأجيج الصراع المذهبي واردة جداً كلما سنحت الظروف.
3 ـ عدم توافر الأعداد الكافية للقاعدة الصلبة والكتلة الحرجة الخلاقة التي يلتف الناس حولها لإحداث التغيير.
أما في مصر، فإن الوضع مختلف كثيراً عن العراق والشام، والتاريخ يشهد أن مصر كانت الرافعة التي تستند عليها الأمة كلما دهمها خطر أو شارفت على الانهيار، ولئن كان النظام المستبد في مصر موجوداً وما زال يمارس عمله، فإن مصر تتميز بميزتين حاسمتين تجعل أي مشروع فوضوي صعبَ التحقيق بدرجة كبيرة:
الميزة الأولى: أن مصر لا تعاني من صراع مذهبي يذكر؛ فالشعب المصري في معظمه على مذهب ديني واحد، وعندما أقول: لا يوجد صراع مذهبي فإنني أعني الصراع المذهبي بين المسلمين، لأن غير المسلمين في المجتمعات العربية لا يشكلون كتلة قادرة على التأثير الحاسم في الأحداث.
الميزة الثانية والأهم: هي وجود تلك القاعدة الصلبة، وتلك الكتلة الإسلامية الحرجة الخلاقة القادرة على إحداث التغيير، وضبط الصراع في الميدان، وما رأيناه خلال المرحلة الماضية من قوة الثبات، والمحافظة على سلمية التحرك، وحسن الإدارة والتنظيم والانضباط على الأرض يشكل خير دليل على ذلك.
وبناء على ذلك فإن مصر الآن تتجه بشكل واثق نحو التغيير الشامل على يد الكتلة الحرجة الخلاقة، والتي استطاعت بفضل الله تعالى ثم حسن التدبير أن تجذب كثيراً من المحايدين إلى صفوفها، ولئن انكسرت هذه الكتلة الإسلامية في جولة، فإن هذا لا يعني استئصالها بحال من الأحوال، لأنها تستطيع أن ترفع رأسها وتتقدم من جديد.
وهذا بالتحديد ما يبشر الأمة بنصر حاسم وتغيير شامل، يرتقبه الناس ويتشوقون إليه، يبدأ من مصر الحبيبة، والتي تشكل خزان العروبة وترسانة الإسلام، فأبشروا وأملوا واصبروا فإن نصر الله قريب، ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً.
ستشرق الشمس مهما طال مغربها ويُهزم البغي مصحوباً بخِذلانِ
ويفضح الصبح، إن الصبح موعدهم ما يَنسُج الليل من زيف وبهتان