السنة الهجرية تخلد ذكرى وضع النبي صلى الله عليه وسلم أقدامه الطاهرة على أرض يثرب مؤسساً لأولى لبنات بناء الدولة الإسلامية القائمة على احترام الذات الإنسانية ونصرة المظلوم والجهر بالحق، ومراعاة الضعيف وأخذ حقه من المتجبر، وقد سجل التاريخ في مثل هذه الذكرى الكثير من مواقف التضحية وأمثلة الأخوة الصادقة.
تحمل الهجرة الكثير من الدروس والمعاني العظيمة التي يحتاج المسلم في أيامنا أن يمنح نفسه وقتاً لتدبرها، وقد حاولنا من خلال استضافة د. سليمان الدقور وهو أستاذ الشريعة، في الجامعة الاردنية ورئيس تحرير مجلة الفرقان الأردنية أن نتطرق لذكر موجز حولها، لن أطيل عليكم وأترككم مع الحوار.
بصائر: هل تعتبر الهجرة ديدن الأنبياء عند استعصاء أمر هداية القوم؟ وهل لك أن تعطينا لمحة حول هجرة الأنبياء ومن آمن معهم؟
"الهجرة جزء من طبيعة المواجهة التي تكون بين الأنبياء ودعوتهم وبين من يقف في وجهها"
الهجرة في أساسها هي قيمة أكثر منها مجرد حدث تاريخي أو جغرافي أو زماني، وهي في حق الأنبياء جزء من طبيعة المواجهة التي تكون بين دعوتهم وبين الذين يقفون في وجه هذه الدعوة؛ وقد جاءت الهجرة على أكثر من شكل؛ فهجرة النبي نوح عليه السلام كانت بركوبه ومن آمن معه في السفينة، وقضى نبي الله يونس فترة هجرته في بطن الحوت، ونبي الله إبراهيم تنقل بين بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، ومما يتمثل في الهجرة المحاولة الجادة التي قام بها هؤلاء الأنبياء في سبيل نصرة دعوتهم والبحث عن مؤيدين لهذه الدعوة وأنصار لها، ولذلك هم يختلفون في حدود المكان وينتقلون إلى حدود نصرة هذه الدعوة وإيجاد أنصار جُدد لها.
بصائر: ما هي الحالات التي يسمح فيها الشرع بالهجرة، ومتى تحرّم؟
كما أسلفنا أن الهجرة قيمة عاشها النبي صلى الله عيه وسلم؛ جاءت في محاولته الجادة وسعيه لتمكين هذا الدين سواء كان هذا في عرض نفسه على القبائل أو في ذهابه للطائف وأمره لبعض الصحابة والمستضعفين بالسفر إلى الحبشة، إلى أن حصل له موضوع الهجرة إلى المدينة المنورة.
لذلك نجد أن القرآن الكريم تكلم عن الهجرة واعتبرها مخرجأ في سورة الأنفال؛ إذ إن آخر آيات سورة الأنفال تتكلم عن عناصر بناء الأمة وهي الأخوة والولاء والإيواء والنصرة والجهاد والهجرة، فجعل الهجرة عنصراً من عناصر بناء الأمة بمعنى أن الوقت الذي لا يستطيع فيه الإنسان أن يقيم دينه في مكان معين ولم يجد له أنصاراً لهذا الدين، يتحتم عليه أن يبحث عن مكان آمن لإقامة شعائره فيه.
"نحن نطالب الأمة المسلمة أن تعمل على صيانة مجتمع يقضي بنصرة المستضعفين وأن تقام فيه القيم الإسلامية الإنسانية المطلقة من العدل والمساواة والإيواء والنصرة حيث يوالي بعضهم بعضا"
لكن اليوم وبعد أن تمكن الإسلام وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الفتح قال النبي كلمته الشهيرة: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". بمعنى أن المسلمين لن يبحثوا عن مكان يهاجروا إليه ولكن مطلوب منهم الجهاد والفتح للإسلام.
لكن لو نظرنا اليوم في حال الأمة وانتشار المسلمين في أصقاع العالم هل تجب عليهم الهجرة؟ نحن نقول في هذه الحالة إن كان يضيق على الإنسان في البلاد التي هو فيها وكانت هناك بلاد أخرى يستطيع أن يمارس فيها حياته ويعز فيها أهل الاسلام، فواجب على المستضعف أن يهاجر إلى حيث ينتصر لدينه. ولكننا نعاني اليوم من استضعاف المسلمين في بلدان تدعي الإسلام أكثر من استضعافهم في البلدان غير الإسلامية، فهل بناءً على ذلك نوجب عليهم الهجرة؟ الجواب: لا .. الحقيقة في مثل هذه الحالة نحن نطالب الأمة المسلمة أن تعمل على صيانة مجتمع يقضي بنصرة المستضعفين وأن تقام به القيم الإسلامية الإنسانية المطلقة من العدل والمساواة والإيواء والنصرة حيث يوالي بعضهم بعضا.
وفي هذا السياق أود التوضيح على أن للهجرة مفهوم عام وآخر خاص، فالمفهوم العام هو ما كنا نتحدث عنه فيما سبق، أما المعنى الخاص فيأتي من خلال هجرة الذنوب والمعاصي وهذا من المطلوب أن يستشعره المسلم في هذا اليوم وفي كل يوم، على المسلم هجرة الكسل وضعف الإرادة، وهجرة الانكسار واليأس، الأمة اليوم بحاجة إلى هذه المعاني لأن الهجرة الحقيقية العامة المطلقة تأتي من تحقيق هجرة المعاصي والذنوب والهجرة إلى الصلاح.
بصائر: ما الدروس المستفادة من الهجرة؟
كثيرة هي الدروس المستفادة من الهجرة منها أهمية انتقال المسلم من حالة الضعف إلى حالة القوة.
"من الدروس المستفادة من الهجرة، أهمية التخطيط؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم علّم المسلمين أهمية التخطيط واستشراف المستقبل والأمل الذي تحتاجه الأمة ويحتاجه المسلم؛ لأن تسرب الإحباط واليأس هو الذي يحرمنا النصر والتمكين"
من الدروس المستفادة أيضا استثمار الجهود؛ والأخذ بالأسباب، فالنبي صلى الله عليه وسلم اتخذ صاحباُ، وكتم أمر هجرته، وسار في طريق مخالف للطريق المعروف، وكان يسير خلفه من يغطي على خطواته، وجعل للمرأة دوراً حيث شاركت أسماء بنت ابي بكر في التغطية على الهجرة وتزوديهم بالغذاء، وهذا دليل على أهمية دور المرأة في نصرة الإسلام وفي الدعوة إلى الإسلام وهو دليل على خطأ من يدعي أن المرأة دورها مقتصر على البيت وتربية الأبناء، بل هي شاركت في الأعمال الكبرى والعظيمة.
و من الدروس المستفادة أيضا التخطيط؛ النبي صلى الله عليه وسلم علّم المسلمين أهمية التخطيط واستشراف المستقبل والأمل الذي تحتاجه الأمة ويحتاجه المسلم؛ لأن تسرب الإحباط واليأس هو الذي يحرمنا النصر والتمكين، وأجد الأمل متجلياً في حادثة سراقة الذي لحق النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وفي كل مرة يكبو فرسه وينغرس في التراب حتى وعده النبي صلى الله عليه وسلم قائلا له: ترجع ولك سواري كسرى؟ انظر لرجل مهاجر مطارد ومع ذلك يعد بسواري كسرى وهذا دليل على الأمل والثقة التي يغرسها محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس الشباب وأفراد الأمة لكي لا ييأسوا ولا يحبطوا.
بصائر: انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحاديث وعبارات في ضمنها أن صحائف الأعمال تطوى في ذكرى الهجرة؟ وأن لهذا اليوم فضائله عند الله .. هل خص يوم الهجرة بأي من الفضائل؟
ليس هناك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو آية قرآنية مباشرة تتكلم عن يوم ولحظة الهجرة كلحظة متعلق بها أو الزمن التي حدثت به، ما هو وارد في الآحاديث والآيات القرآنية ما يشير إلى قيمة الهجرة عموما، وليس هناك دليل على مغفرة الذنوب ولا على صحائف تطوى ولا على فضل صيام أو قيام، وما يكثر انتشاره عبر وسائل الإعلام الاجتماعي وغيره حول هذه الذكرى لا أصل له ولا دليل عليه، هو حدث وموقف له دوره في التاريخ الإسلامي؛ والدليل على ذلك قيام عمر رضي الله عنه ببداية التاريخ الهجري في هذه الذكرى وذلك من باب استشعار أن هذا اليوم هو يوم عزة وكرامة.
بصائر: وقفة الأنصار مع المهاجرين عند رحيلهم إلى المدينة المنورة كان فيها من صور التضحية ما فيها .. في عصرنا كثر المهجرون قسرا عن ديارهم وبلادهم .. كيف يربي المسلم نفسه على أن يكون أنصارياً؟
تحمل المؤاخاة قيم كبيرة؛ وقد تكلم عنها وأرشد إليها القرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقال تعالى: {المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، لذا فالمؤاخاة تحمل معنى الموالاة.
هناك قيم جميلة حملتها حادثة المؤاخاة منها أن المهاجرين لم يكونوا يملكون شيئاً ومع ذلك لم يكونوا ثقلاء على إخوانهم ولم يسعوا لأن يكلفوهم شيئاً، وعلى سبيل المثال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما قال لأخيه الأنصاري دلني على السوق. وأخذ يعمل ويبحث عن كسبه ورزقه ولم يعش عالة على إخوانه. في مقابل ذلك كان موقف الأنصار موقفاً أكثر عجباً، حيث كان الواحد منهم يأتي لأخيه المهاجر فيقول له: هذا مالي أقسمه بيني وبينك نصفين، هؤلاء زوجاتي إن شئت طلقت لك أي منهن فتزوجتها، وصل الأمر إلى هذا الحد لكن مع هذا الإيثار الذي قام به الأنصار لم يذكر التاريخ أن أحداً من المهاجرين رضي أن يطلق أحدهم له زوجته أو أنهم أخذوا أنصاف الأموال بل توجهوا هم للعمل وساندوا بعضهم بعضاً.
ومن العجيب في المؤاخاة ما حدث من استثمار للجهود فقد كان المهاجرون بارعين في التجارة، وكان الأنصار بارعين في الزراعة، فاستطاعوا أن يجمعوا بين الأمرين في بناء الدولة الجديدة.
لذا يجب علينا أن نتعلم من الأنصار وأن نعزز قيم المحبة وقيم التعامل وقيم التكامل، ونحن نعيش في بلد مضياف لإخوانه الذين يهاجرون إليه منذ نكبة فلسطين وأحداث 67 ومن سوريا والعراق وغيرها من الدول؛ حتى نصنع مجتمعاً ناضجاً متمسكاً، وعلينا تعزيز البنية الاجتماعية ولحمة الأخوة الإيمانية، وتجنب إثارة النعرات فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما اختلف الأوس والخزرج "دعوها فانها منتنة!".