رغم شدّة المصاب والدمار الذي لحق بسكان قطاع غزة، بينما كانت تُغير الطائرات الحربيّة الصهيونية بحممها الملتهبة والمتلاحقة على المدنيين العزّل، إلا أنهم يُصرون على التشبث بأرضهم ووطنهم، فيما تحاول مئات الأسر الغزّية لملمة جراحها رغم المصاب والدمار الذي أحل بها، لاسيما تلك العائلات التي ودّعت أبناءها الشهداء دفعة واحدة، وسُوّيت بيوتها بالأرض.
ولسان حالهم يقول: «مهما فعلوا بنا، ورهّبونا، وهجّرونا من بيوتنا، وقتلوا أبناءنا الشهيد تلو الشهيد، فلن ينالوا من إرادتنا التي تشبعت بالصمود والتحدي، ولن يستطيعوا القضاء على المقاومة التي هي جزء منا ونحن جزء منها».
قصة صمود
الحاج أبو خالد النجار (62 عاماً) من حي التفاح شرق قطاع غزة، حاول أن يختصر قصة صموده بثلاثة جمل قائلاً :"بنيت بيتي الذي يؤويني أنا وعائلتي وأحفادي بعد جهد وعمل كبيرين، وكما يقال "تحويشة العمر" فقام الاحتلال بهدمه في لحظة، فوضعت فراشي فوق الركام وقررت بناءه من جديد حتى لو من كومة قش.
تقاسيم الوجع في أحياء مدينة غزة باتت متساوية عند الأهالي، لكن الصمود أصبح عنوانا في كل منزل.
"خنساء" بـــ 18 شهيد
أم ماجد البطش جدة فلسطينية على طراز «الخنساء»، ودّعت ثمانية عشر فردا من أبنائها وأحفادها شهداء خلال الحرب الأخيرة على غزة، والتي عرفت بمعركة "العصف المأكول"، وها هي تُقدم أروع معاني الصبر والثبات والصمود، متمنية لو أن لديها المزيد من الأبناء لتقدمهم جميعاً في سبيل فلسطين.
ورغم فقدان الحاجة البطش لأبنائها وأحفادها الذين تعتبرهم "فلذة كبدها"، فإنها لم تكف عن إطلاق عبارات الصمود والثبات، مؤكدة أن "تحرير فلسطين يحتاج منا كأمهات تقديم كل ما هو غالٍ ونفيس من أجل ذلك".
أسباب صمود غزة
د. نهاد الشيخ خليل: أهل غزة أدركوا أنه لا يوجد فرق بين القتل البطيء والقتل المكثف السريع"
وفي سياق متصل ، قال الدكتور نهاد الشيخ خليل أستاذ التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة لــ"بصائر" :"إن هناك عدة أسباب تقف خلف صمود أهل غزة، أولها أن أهل غزة أدركوا أنهم محاصرون من أجل التنكيل بهم، مؤكداً أن الاحتلال الإسرائيلي وكل الأطراف التي تحاصر غزة لو أرادت الوصول إلى حلول فبالإمكان الوصول عبر طرق غير الحصار".
واستدرك الشيخ خليل قائلا: "لكن هذا الحصار هو أحد الأدوات الهمجية التي تمارس بحق الشعب الفلسطيني، وله أهداف بعيدة تتمثل بتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على المقاومة بشكل كامل ومعاقبة الناس على اختيارهم الديمقراطي عام 2006 عندما انتخبوا حركة حماس".
وأضاف الشيخ خليل أن الذي حاصر الناس وتسبب بالموت والمرض والفقر على مدار 8 سنوات أراد هذه المرة أن يعطي جرعة مكثفة من الموت، "فبالتالي أدرك الناس أنه لا يوجد فرق بين القتل البطيء والقتل المكثف والسريع".
وشدد على أن شعب غزة أدرك أن المقاومة المبدعة على أرض فلسطين وقطاع غزة قادرة على أن تسدد ضربات موجعة للاحتلال، كما أنها جزء عزيز وأصيل من أرض فلسطين وجوهرها ليس الدفاع عن هوية فلسطين فقط إنما الدفاع عن هوية المنطقة كلها وعن كرامة الأمة.
أثر الصمود في الصراع مع اليهود
وأوضح الشيخ خليل لــ"بصائر" أن البسالة والمهارة التي أظهرتها المقاومة أحدثت نتائج إيجابية على الصعيد الاستراتيجي أولها أن الاحتلال أدرك أن الحصار لا فائدة من استمراره، مضيفاً أن دولة الاحتلال أيقنت أنه لا يمكن استمرار الحصول على احتلال مريح "احتلال خمس نجوم"، في ظل المقاومة.
ونوه إلى أن القوة التي تملكها الآلة الصهيونية لها حدود، وأن قدرتها على الردع لم تعد قائمة كما كانت في السابق، وأن كل نظرية الأمن الصهيوني انهارت في ظل نقل المعركة إلى المدن والمستوطنات أي خارج أرض العدو كما يسمونها.
دور الدول العربية والإسلامية
وبين الشيخ خليل أنه لو توفرت بيئة إقليمية داعمة للمقاومة الفلسطينية ومتحالفة معها لما استطاع الاحتلال أن يقوم بما قام به من قتل وانتقام وتدمير، مستدلا على ذلك بأن "بعض الصحفيين في الاحتلال اليهودي قالوا:" كلما نظرنا إلى العرب كانوا يقولوا لا أحد يضغط علينا لإنهاء الحرب".
وتابع" كلما نظرنا إلى العواصم العربية ورأينا ساحاتها وشوارعها فارغة فهمنا أنه بإمكان الاحتلال أن يستمر بالقصف والقتل ".
وذكر أن الأوضاع في الوطن العربي شائكة،" لكن الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني ومساندته والوقوف ضد الاحتلال مطلب أساسي، خاصة في ظل ما يحدث الآن في المسجد الأقصى من هجمات لا تكاد تتوقف.
العامل الديني سبب صمود غزة
د. تيسير إبراهيم: صمود أهل غزة، يعود لفهم الناس لما يجري على أرض فلسطين وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة بأنه فاتورة أو ضريبة نحن ندفعها لصراع بين الاحتلال و بين شعب محتل
ومن جهته، قال د. تيسير إبراهيم أستاذ الفقه في كلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية بغزة:" إن صمود شعب غزة أمام العدوان يعود إلى مجموعة من العوامل وعلى رأسها العامل الديني المتعلق بفهم الناس لما يجري على أرض فلسطين وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة بأنه فاتورة أو ضريبة نحن ندفعها لصراع بين الاحتلال و بين شعب محتل ".
وتابع " الإسلام يحثنا كمسلمين على دفع العدو وجهاده لما يترتب على هذا الجهاد من أجور عظيمة, والجميع يعلم أننا شعب محتل وإسرائيل دولة احتلال، الأمر الذي يعطي الشعب دفعة قوية للصبر والتحمل مقابل الأجر العظيم عند الله".
جينات الفلسطينيين اعتادت على الصمود
وأردف إبراهيم قائلاً:" أما البعد الآخر فيتمثل في أن شعب غزة تمرس على هذا الوضع الذي يعيشه وأصبح قادرا على أن يتحمل ويواجه ويصبر ويؤمن بحكم الواقع ، فنحن نعيش الآن أكثر من ثماني سنوات من الحصار خضنا خلالها ثلاثة حروب مما أعطانا قدرة على الصمود و التحدي بسبب التمرس في هذا الواقع لدرجة أن الجينات والموروثات اعتادت على الصبر بفعل السياسة".
وشدد إبراهيم على أهمية احترام وتقدير الشعب الفلسطيني الذي قدم التضحيات وصمد أمام الحرب والحصار والحرمان من أدنى مقومات الحياة، لافتاً إلى أنه على الرغم مما تعرض له إلا أنه شكل حاضنة للمقاومة،" وبالتالي يحتاج هذا الشعب إلى الرفق به من كل المسؤولين والاهتمام بمصالحه والاهتمام بحاجاته" .
وأكد على ضرورة أن لا تكون الحرب سببا في تقديم التنازلات كما يريد البعض، واستثمار ذلك الصمود في خدمة القضية الفلسطينية، منوها إلى أن كل من زار ذوي الشهداء بعد الحرب وجدهم يؤكدون على رسالة الصمود والمقاومة والتحدي للاحتلال.