((عينٌ بكت من خشية الله)).. ((ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).. من صفات الصَّالحين الذين يتطلّعون إلى جنّة عرضها السماوات والأرض وينعمون بظلالها الوارفة يوم لا ظل إلا ظله، وهم في دقائق وساعات هذه الدنيا الفانية يتلون القرآن الكريم ويتدبّرونه ويسمعونه بآذان قلوبهم قبل آذان أجسادهم.. يتأثرون بمعاني الآيات فتذرف عيونهم دمعاً بعد أن امتلأت قلوبهم بالسكينة والطمأنينة والخشوع.
ذكر الإمام ابنُ قيم الجوزية في كتابه (زاد المعاد) عشرة من أنواع البكاء، نذكر منها: (بكاء الخوف والخشية، وبكاء الرّحمة والرّقة، وبكاء المحبَّة والشوق، وبكاء الفرح والسرور). والبكاء من خشية الله تعالى أصدق بكاء تردّد في النفوس، وأقوى مترجم عن القلوب الوجلة الخائفة.
وقد كان لسلفنا الصَّالح رضوان الله عليهم أحوال رائعة مع البكاء من خشية الله وهم يتلون كتاب الله تعالى، قال مالك بن دينار: (إنَّ الصدّيقين إذا قُرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة)؛ وفي أخبارهم وسيرهم نماذج للقدوة تعلي الهمم وتقوّي العزائم وتصرف الدّعة والكسل وتحفّز تدبّر القرآن وفهم آياته وتدفع إلى الطاعة والخوف والخشية والأنس بالله.
فهذا خير الخلق قدوتنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، يروي عنه عبد الله بن مسعود، قال: قال لي النبيُّ: ((اقرأ عليَّ))، قلت: (آقرأ عليك وعليك أنزل)، قال: ((فإنّي أحبُّ أن أسمعه من غيري))، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}. [سورة النساء: 41]، قال: ((أَمْسِكْ))، فإذا عيناه تذرفان، وفي رواية لمسلم: ((فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ)). [متفق عليه].
وهذه أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنها قال عروة: "دخلت على أسماء وهي تصلّي، فسمعتها وهي تقرأ هذه الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}. [سورة الطور: 27]، فاستعاذت، فقمت وهي تستعيذ، فلما طال عليَّ أتيتُ السوق ثم رجعت وهي في بكائها تستعيذ".
وهذا سعيد بن جُبير، يروي عنه القاسم بن أبي أيوب بقوله: "سمعت سعيد بن جبير يردّد هذه الآية في الصلاة بضعًا وعشرين مرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}. [سورة البقرة: 281]".
وصلّى سفيان الثوري بالنَّاس صلاة المغرب، فقرأ حتّى بلغ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فبكى حتّى انقطعت قراءته، ثمَّ عاد فقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ومنهم محمد بن المنكدر بينما هو ذات ليلة قائم يصلّي إذ استبكى وكثر بكاؤه حتّى فزع أهله وسألوه: ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي، قال: "يا أخي، ما الذي أبكاك قد رُعتَ أهلك، أفمن علة أم ما بك"، فقال: "إنّه مرّت بي آية في كتاب الله عزّ وجل، قال: وما هي؟، قال: "قول الله -تعالى-: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}. [سورة الزمر: 47]، فبكى أبو حازم أيضًا معه، واشتد بكاؤهما، فقال بعض أهله لأبي حازم: "جئنا بك لتفرج عنه فزدته"، فأخبرهم ما الذي أبكاهما.
ومنهم الربيع بن خثيم يروي عنه عبد الرَّحمن بن عجلان، قال: "بتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام يصلي، فمر بهذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. [سورة الجاثية: 21]، فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد".
ومنهم ميمون بن مهران الذي قرأ قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}. [يس: 59]، فرقَّ حتى بكى، ثم قال: (ما سمع الخلائق بعتب أشد منه قط).
ومنهم الحسن بن صالح: عن حميد الرّواسي قال: كنت عند علي والحسن ابني صالح ورجل يقرأ: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. [سورة الأنبياء: 103]، فالتفت عليٌّ إلى الحسن وقد اصفار واخضار، فقال: "يا حسن، إنها أفزاع فوق أفزاع"، ورأيت الحسن أراد أن يصيح، ثمَّ جمع ثوبه فعضَّ عليه حتى سكن عنه وقد ذبل فمه، واخضار واصفار.
وبعدُ، فيقول ابن قيّم في كتابه (بدائع الفوائد): (ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي).
وكان كثيرٌ من السلف يحبُّ أن يكون من البكّائين، ويفضلونه على بعض من الطاعات، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار).
وكان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع فيقول: ((... اللَّهمَّ إنّي أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع ومن قلبٍ لا يخشع ومن نفسٍ لا تشبع ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها)).