الحصول على الكرت الأخضر كان إحدى صرعات عقود مضت.. تمثل حلم الشباب فيها بالوصول إلى أمريكا لبناء مستقبل وردي طامح، والحقيقة المرة على أرض الواقع أن بلادنا كانت طاردة بحكامها وأنظمتها وقوانينها وتخلفها ومصائبها التي لا تعد ولا تحصى، وما لبثت أن تحولت الوجهة في وقتنا الحاضر نحو الشمال الأوروبي عبر أمواج متلاطمة وطرق مخيفة غير آمنة.. والقاسم المشترك أنها هجرة نحو مصير مجهول ومستقبل لا يماري أحد بمدى خطورته على صاحبه وأبنائه والأجيال التي ستنشأ في تلك المهاجر البعيدة النائية.
إزاء تلك الظاهرة التي تعالت أصوات البعض للتداعي إلى دراسة أسبابها ومخاطرها وسبل الحد منها فإننا ونحن نعيش في ظلال ذكرى هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى الوقوف عند أوامره وتوجيهاته لأمته بشأن الهجرة الأمثل، كي تسير على ذات الطريق التي سار عليها نحو الظفر والنصر والتمكين..
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم". السلسلة الصحيحة للألباني. ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام المهاجر إلى ربه قد هاجر إلى الأرض المقدسة فلسطين (وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) واستقر فيها إلى حين وفاته ودفنه في مدينة الخليل منها. وفلسطين جزء عزيز من أرض الشام، بل هي سرة الشام وقلبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: "عليكم بالشام". صحيح الجامع للألباني. إنه التوجيه الأسمى منه صلى الله عليه وسلم يوجه فيه بوصلة الهجرة إلى الشام وقلبها بيت المقدس والأكناف.
عليكم أيها المسلمون بالشام خاصة وقت الفتن والمحن التي تعصف بالبشر فتزيغهم عن سبيله وتبعدهم عن جادته، عليكم بالشام عندما تستشعرون الخطر على إيمانكم وولائكم لهذا الدين، عليكم بالشام عندما تحسون بالتثاقل إلى الأرض بعيداً عن النفير لنصرة دين الله، عليكم بالشام إن تاقت أنفسكم للمعالي ورغبتم في تحصيل أعلى الدرجات، عليكم بالشام فالملائكة باسطوا أجنحتهم عليها، عليكم بالشام فيا طوبى للشام وأهلها، عليكم بالشام ففيها هلاك الظالمين والمجرمين، عليكم بالشام ففيها نهاية الدجال وكل من معه من اليهود ونهاية يأجوج ومأجوج، عليكم بالشام ففيها الطائفة الظاهرة على الحق التي لا يضرها من خذلها ولا من ناوأها، عليكم بالشام ففيها المسجد الأقصى، قبلتنا الأولى ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء.
ولا يظنن ظان أن ابتعاده جغرافياً أو فكرياً أو سياسياً عن دائرة الأحداث الدامية في بيت المقدس وما حولها أنه بمأمن من البلاء والفتن، فإن من أشد الفتن أن يقعد مسلم -أو مسلمة - في بيته أو بلده ويكتفي بمراقبة ما يجري لمسجده وأقصاه دون أن يحرك ساكناً. إن من أشد البلاء والضياع أن تتصدر اهتماماته الشخصية (أو اهتماماتها) أو القومية والإقليمية أولويات أعماله وطموحاته وتحركاته.. فنحن في اللحظات التي لا يعفى منها صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، فقير أو غني، قوي أو ضعيف، حاكم أو محكوم، طالب أو مدرس أو مهندس أو حرفي أو طبيب. إعلامي أو فنان أوعالم أو سياسي أو مجند أو خطيب.
إنه أوان الهجرة إلى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، اتقاء غضب الله تعالى أن تدنس بقعة مباركة تعطرت بأنفاس الأنبياء والمرسلين وهم يصطفون جميعاً خلف إمام المرسلين وخاتمهم صلى الله عليه وسلم مع ملائكة الرحمن والروح الأمين جبريل عليه السلام الذي يبغض يهود وتبغضه يهود، ويوشك هو ومعه كوكبة من الملائكة المقربين المؤازرين لجند الأقصى المؤمنين المرابطين - في وقت لا أراه بعيداً - أن يزلزلوا كيانهم ويقضوا على علوهم وفسادهم.
فلتتحد وجهة الأمة نحو قبلتها الأولى ومسجدها الأقصى المبارك، ولتكن هجرة عامة لكل أبناء الأمة، هجرة بالروح والمشاعر، هجرة كلمة وقصيدة وبيان وصرخة وهتاف ووقف وبناء ومال لأجل الأقصى، هجرة عقول وأدمغة للاعتكاف في باحاته والتفكير بمشروع تحريره وإنقاذه، هجرة همّ وانشغال بالمسرى وإعداد وتجهيز ليوم الفرحة الكبرى. هجرة تتخطى كل القاعدين المتخاذلين، والعملاء والمنافقين، وأبواق الكذب المأجورين، وعلماء السوء المثبطين. هجرة تتخطى أصحاب الهمم الدنيئة والطموحات الوضيعة.
هجرة تضع المسجد الأقصى وبيت المقدس في صدارة الاهتمامات ورأس الأولويات فلأجله تقدم القربات، وتعذب التضحيات، ولأجله تسرج القناديل بالدماء، وترتقي من سمائه أرواح الشهداء.