تروي كتب السيرة والسنة النبوية الشريفة أنَّ رجلاً أعرابياً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فآمن به واتبعه. فقال: أهاجر معك؟ فأوصى به أصحابه. فلّما كان غزوة خيبر غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا فقسمه، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم (أي الإبل) فلمّا جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذه فجاء به إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: قسم قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، ثمَّ نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُحمل. فقال: أهو هو؟ قالوا نعم، قال: ((صدق الله فصدقه)).
هذا مجرّد نموذج من النماذج الربانية الذين تجرّدوا لله في أمرهم كلّه.. والنماذج كثيرة.. وهي تتكرّر في كل حين عندما يتخلّص الداعية من نزعات النفس وهواجسها، وحبّ الدنيا وشهواتها، وحبّ الجاه ومقتضياته، وحبّ الأسرة والعشيرة وتعلّق قلبه بها.. يفرّ من كل ذلك إلى الله، ولسان حاله يقول: {وعجلت إليك ربي لترضى}.
وعلى من يقتنع بعظمة الإسلام، وشهدت نفسه أنَّ هذا هو الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال، لزمه أن يتجرّد لله وأن يستسلم وينقاد لأمر الله، وأن يلزم نفسه بأن يدير أمره وحياته كلّها وفق أحكام الله وأوامره.
فما هو هذا التجرّد وما هي معانيه وعلاماته؟
في أصله اللغوي: الجرادة بالضمّ ما قشر عن الشيء، والتجرَّد التعرية من الثياب، والتجرّد التعرّي وتجرّد للأمر: أي جدَّ فيه.
"أن تتجرَّد لله من كل ما سواه، أن تكون الحركة والسكون في السر والعلن لله تعالى، لا يمازجه نفس ولا هوى ولا دنيا ولا جاه ولا سلطان"
وفي معناه الشرعي: هي أن تتجرَّد لله تعالى من كل ما سواه، أن تكون الحركة والسكون في السر والعلن لله تعالى، لا يمازجه نفس ولا هوى ولا دنيا ولا جاه ولا سلطان.
وقد وضع الإمام الشهيد حسن البنا التجرَّد كركن من أركان البيعة واصفاً إياه بقوله : "أريد بالتجرّد : أن تتخلّص لفكرتك ممَّا سواها من المبادئ والأشخاص، لأنَّها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها قال الله تعالى : {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً}. (البقرة:138). وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.(الممتحنة:4)".
ومن علامات التجرّد:
• أن يبتعد الداعية عن كلّ سببٍ جاهلي، وينحاز لكلّ سببٍ ربانيّ إنسانيّ.
• وأن يتهم نفسه باستمرار.. ويعرضها في كلّ حادثة على الموازين السليمة مخافة أن تضعف نفسه وتنحرف عن الخط الصَّحيح.
• وأن يكون مستعداً لتقديم النفس وما يملك رخيصاً في سبيل الله.