التضحية بالمال .. وبشّر المُنْفِقِين

الرئيسية » بصائر تربوية » التضحية بالمال .. وبشّر المُنْفِقِين
zakat-islam

إنَّ التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة وكلّ شيء في سبيل الله قد تكون واجبًا لا فكاكَ عنه إذا كان لا بد منها لدفع الضرر عن المسلمين أو ردّ عدو عن أرضهم، وقد تكون التضحية مندوبًا إليها ومستحبة عندما لا تكون واجبة، وقد طالب الإسلام المسلمين بالتضحية في سبيل الله ووعد بالجزاء عليها أحسن الجزاء. قال تعالى: {ِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

يقول الإمام الشهيد حسن البنا فى تعريفه لمفهوم التضحية: (وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم.. ولمَّا كانت الدّعوة لا تحيا إلاّ بالجهاد، ولا جهاد إلاّ بتضحية، فقد وجبت التضحية وحرم القعود والبخل ولحق صاحبه الإثم، فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}).

ومن الأسرار اللطيفة في آيات الجهاد بالقرآن، تقديمَ الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في جميع الآيات التي جمعت بينهما إلا آية بَيْعة الجهاد بسورة التوبة، فتقديم المال على النفس في معظم الآيات ليس لفضله على النفس، بل إنَّ الجهاد بالنفس أعظم ولكنَّه لا يتم إلا بالمال، فالإنفاق في سبيل الله لازم لإعداد الجيوش ولا يتم الجهاد بالنفس إلا بعد الجهاد بالمال، أمَّا آية {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} فهذا مقامُ المبايعة مع الله، وقد عرض الله سلعة غالية، فوجب على العبد أن يقدّم في شرائها أغلى ما يملك، وهي النفس، فلذلك قدّمت النفس على المال في هذه الآية التي تُبَيِّن كرم الله عزّ وجل؛ فإنَّه يملك نفوس الخلق جميعاً، ومع ذلك، فقد اشتراها من المؤمنين بالعِوض وهو الجنة.

"ليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم.. ولمَّا كانت الدّعوة لا تحيا إلاّ بالجهاد، ولا جهاد إلاّ بتضحية، فقد وجبت التضحية"

يقول الإمام الشنقيطي صاحب "أضواء البيان": (تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس فيه سرٌّ لطيف؛ وذلك أنَّ حقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة، والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش، وهو أهم من الجهاد بالسلاح، فبالمال يشترى السلاح، وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية، وبالمال يجهّز الجيش، ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم، وأعذر معهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به. وكذلك من جانب آخر، قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: ((من جهّز غازياً فقد غزا)).

للتضحية بالمال .. نماذج خالدة

تزخر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بنماذج ناصعة من التضحية والجهاد بالمال من أجل إعلاء كلمة الله والانتصار للمسلمين في معاركهم، وقد حوت المراجع والمصنّفات الكثيرة قصصاً عديدة تجسّد التطبيق العملي لمفهوم التضحية بالمال، ونعرض فيما نماذج منها..

في غزوة تبوك..

فتح الرَّسول صلى الله عليه وسلم باب التبرّع علانية حتى يحفّز المسلمون بعضهم بعضاً، وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ قام فقال: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك سروراً عظيماً، ثمَّ فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانية يزيد الأجر لنفسه، قال: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، وسعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم سعادة عظيمة حتى إنه قال: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم)، ولم يسكن عثمان ولم يطمئن، بل أخذ يدفع من جديد حتّى وصل ما تبرع به إلى ثلاثمائة بعير، وفي رواية: تسعمائة بعير ومائة فرس، ثمَّ ذهب إلى بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقلبّها متعجباً.

القرض الحسن ..

يروي لنا زيد بن أسلم رضي الله عنه، قال: لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه: فداك أبي وأمي يا رسول الله! وإن الله يستقرضنا وهو غنيٌّ عن القرض؟ قال: ((نعم، يريد أن يدخلكم الجنة به)). قال: فإنّي قد أقرضت ربي قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: ((نعم)). قال: ناولني يدك، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. فقال: إنَّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضاً لله تعالى. قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك)). قال: فأشهدك يا رسول الله، أنّي قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: ((إذن يجزيك الله به الجنة)). وممّا قاله له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((كم من عذقٍ رداح ودار فياح لأبي الدحداح)). أي: في الجنة.

طلحة الخير ..

عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ((كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحبَّ أمواله إليه بَيْرَحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرَحَاء، وإنَّها صدقة لله، أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإنِّي أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمِّه)).

رَبِح صهيب ..

لمَّا خرج رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر رضى الله عنه يقول صهيب: وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان قريش، وقالوا: أتيتنا صعلوكاً حقيراً ثمَّ أصبت بين أظهرنا المال، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون أنتم سبيلي؟ فقالوا: نعم، فخلع لهم ماله، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب، ربح صهيب.. ونزلت على النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ والله رَءوفٌ بالعباد}، فلمَّا رآه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم قال: ((أبا يحي ربح البيع))، وتلا عليه الآية.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …