تسارعت المساعي الصهيونية خلال العام الماضي لتقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانيا ومكانيا، إذ تزايدت الاقتحامات واتخذت وتيرة منتظمة تمهد لتقسيم أوقات الصلاة بين المسلمين واليهود داخل المسجد الأقصى.
ووصلت الاعتداءات ذروتها في الثلاثين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر بإغلاق المسجد بشكل كامل أمام المصلين للمرة الأولى منذ احتلاله عام 1967م، وذلك إثر محاولة اغتيال المتطرف "يهودا غليك" على يد مجاهد مقدسي.
فيما يتركز الحديث عن المنطقة الشرقية المهملة من ساحات المسجد الأقصى لجعلها منطقة مخصصة لصلاة اليهود في الوقت الحالي، إلى أن تسنح الفرصة لبناء الهيكل مكان المسجد القبلي أو بجانبه.
وعلى طاولة البحث في الكنيست الصهيوني قانون جديد بهدف تقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا، وينص مشروع القانون الذي أعدته جماعة "زعامة يهودية" وتقدمت به النائب "ميري ريغيف" من حزب الليكود على: السماح لليهود بدخول الأقصى وساحاته من جميع بواباته وعلى مدار الأسبوع ما عدا يوم الجمعة، والسماح بالصلوات اليهودية الجماعية في الجزء الشرقي من ساحات الأقصى، وينص مشروع القانون على معاقبة من يخالف تعليماته بالحبس مدة 6 أشهر أو غرامة مقدارها 50 ألف شيكل طالما لم تقع أضرار من ذلك.
وسواء تم إقرار مشروع القانون حالياً أم لا، فإن الحكومة الصهيونية تفتح المجال لتوسيع انتهاكات المتطرفين اليهود – وبمشاركة متزايدة من مسؤولين حكوميين- بحق الأقصى بشكل ممنهج، مما يجعل قوننة هذا الوضع مسألة وقت على الأغلب.
ويأتي هذا القانون لينضم إلى مشروع قانون سابق تقدم به نائب رئيس الكنيست "موشيه فيغلين" في شهر كانون الثاني/ يناير من العام الحالي يهدف إلى فرض السيادة الصهيونية على المسجد الأقصى الشريف.
وقد تزامن تشديد الضغط باتجاه تقسيم الأقصى مع شراء الصهاينة عشرات البيوت في البلدة القديمة، بتواطؤ من بعض السماسرة الفلسطينيين، وبتمويل جهات عربية كما أثير مؤخرا دون نفي من هذه الجهات، كما تستمر سلطة أوسلو في الضفة بوظيفتها الأمنية بأقبح وجه من خلال منع الاحتجاجات والمسيرات الرافضة للعدوان الصهيوني على المسجد الأقصى المبارك.
فيما يلاحظ أن مشاركة حركة فتح وفصائل منظمة التحرير في فعاليات الدفاع عن الأقصى تكاد تكون معدومة، مما يثير التساؤلات عن حقيقة القرار التنظيمي بهذا الشأن، وإلى أي مدى تتماشى مع موقف عباس الرافض بشدة لأي تصعيد شعبي في القدس بذريعة الخوف من استفادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" من هذه الفعاليات، خصوصا في حال تطورها إلى انتفاضة واسعة النطاق.
وفي هذا السياق تأتي زيارة رئيس الوزراء رامي الحمد الله إلى المسجد الأقصى في موقف شكلي يحاول امتصاص الاحتقان الشعبي الفلسطيني.
الخلفية
وفي خلفية هذا التسارع في جهود تقسيم الأقصى الشريف تكمن رغبة اليمين المتطرف الصهيوني باستغلال الأوضاع الإقليمية بالغة السوء في فرض أمر واقع بشأن المسجد الأقصى، ويجادل هؤلاء بأن الفترة الحالية تشكل فرصة ذهبية ينبغي استغلالها لإقرار "حق اليهود بالصلاة في جبل الهيكل".
وتكتسب الاعتداءات المتكرة غطاءً أمنيا وسياسيا مبطنا، رغم الإدعاءات الرسمية بأن "إسرائيل لا تريد تغيير الوضع الحالي في القدس".
وفي الساحة السياسية الصهيونية تتصاعد اتهامات لنتنياهو بأنه مجرد "سياسي حزبي" وليس "زعيما وقائدا للدولة" بدليل اتخاذه سياسات هدفها الرئيس استقرار ائتلافه الحكومي ولو كان ذلك على حساب مستقبل "دولة إسرائيل" ومصالحها الاستراتيجية. ولعل هذا يفسر استمرار الحكومة الصهيونية في هذا المسار على الرغم من تداعياته الحالية والمتوقعة.
ففي مدينة القدس المحتلة يتصاعد التوتر وتستمر الاشتباكات المتقطعة بين الشباب الفلسطيني وقوات الاحتلال منذ مقتل الفتى الشهيد "محمد أبو خضير"، فيما يصفه البعض بأنه انتفاضة صامتة تشق طريقها منذ خمسة أشهر.
فيما تصم الحكومة الصهيونية آذانها عن التحذيرات الأردنية والامريكية المتكررة بأن سلوكها بشأن المسجد الأقصى قد يؤدي إلى "حرب دينية" طويلة الأمد.
مسار الأحداث
يبدو أن الحكومة الصهيونية مصرة على السير المتدرج باتجاه تقسيم المسجد الأقصى الشريف مكانيا وزمانيا، ضمن سياسة فرض الأمر الواقع في فلسطين على جميع الأطراف، وذلك بالاستفادة من التحالف الناشئ بينها وبين بعض من دول "الاعتدال العربي"، وهي تراهن على أن المصالح المشتركة بينها وبين هذه الدول ستمنع أي رد فعل مؤثر بشأن تقسيم الأقصى أو توسيع الاستيطان.
إلا أن الدولة الأكثر تأثرا مما تقدم عليه "إسرائيل" في المسجد الأقصى هي الأردن؛ بما له من دور ومسؤولية تجاه المقدسات في القدس، خصوصا بعد توقيعه في العام الماضي اتفاقية مع السلطة الفلسطينية تنص على الوصاية الحصرية "لملك الأردن" على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وعلى الرغم من التصريحات الغاضبة والتحركات التي قام بها الأردن متأخرا؛ يحجم النظام عن اتخاذ إجراءات سياسية أو اقتصادية فعالة تجاه "إسرائيل" وهو ما دفع السفير الصهيوني السابق في الأردن "دانييل نيفو" إلى القول بأن هذه التصريحات الأردنية الغاضبة تجاه دولته موجهة إلى الشعب الأردني وليس إلى "إسرائيل".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأفعال لا تأخذ بالضرورة نفس اتجاه تصريحات الرسميين الأردنيين؛ فبعد توقيع اتفاقية الوصاية على المقدسات في القدس بأسبوعين لا غير أسقط الأردن والسلطة الفلسطينية خمسة دعاوى منظورة أمام اليونسكو بشأن الاعتداءات الصهيونية في القدس، وذلك بمقابل هزيل وهو سماح "إسرائيل" بزيارة خبراء من اليونسكو لمعاينة الحفريات الصهيونية في القدس المحتلة، إلا أنه عند حلول موعد زيارة الخبراء رفض الكيان الصهيوني استقبالهم!.
وفي ضوء تراجع النفوذ الغربي في المنطقة تزداد جرأة الحكومة الصهيونية في تحدي السياسات الغربية السابقة بشأن التسوية السلمية بمختلف ملفاتها؛ إذ يجاهر وزراء صهاينة بأن حل الدولتين قد أصبح أمرا من الماضي، فيما يعلن نتنياهو أنه سيستمر بتوسيع الاستيطان في القدس والضفة بغض النظر عن المواقف الدولية الرافضة له، وفي هذا السياق تندرج الجرأة الصهيونية غير المسبوقة بشأن تقسيم المسجد الأقصى المبارك.
إلا أن هذا السلوك الصهيوني استثار غضب الإدارة الامريكية، إذ هددت برفع غطاء الفيتو عن "إسرائيل" في حال استمرار التصعيد في الأقصى، وذلك على خلفية استشعارها الخطر من تداعيات هذا التصعيد على الاستقرار في المنطقة وعلى الجهود الدولية لمحاربة تنظيم "داعش"، وبالفعل فقد صرح نتنياهو في اجتماع الحكومة الصهيونية بتاريخ 2/11/2014م قائلا: "نحن ملتزمون بالحفاظ على الوضع الراهن لجميع الديانات... من السهل للغاية إشعال نيران دينية لكن إخمادها سيكون أكثر صعوبة". وكتعويض عن هذا التراجع، ولإسكات غضب اليمين المتطرف، فقد أعلن نتنياهو عن بناء قرابة ألف وحدة استيطانية في القدس المحتلة.
ويشير هذا التراجع التكتيكي الصهيوني إلى أهمية الحراك الشعبي المدافع عن الأقصى الشريف، كما أنه يشكل فرصة للتقدم باتجاه تكريس حقيقة أن المسجد الأقصى خط أحمر يؤدي المساس به إلى تفجر الأوضاع وتكبيد الاحتلال خسائر فادحة.
الدور المطلوب
على الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها الشعب الفلسطيني في القدس والداخل ومن يدعمهم في العالم العربي والإسلامي، فإن مشروع التقسيم الزماني والمكاني للأقصى المبارك يسير قدما، ويحاول أن يفرض نفسه كأمر واقع في المسجد الأقصى وما حوله، بالتوازي مع تعزيز الاستيطان في قلب القدس القديمة، وهو ما يدعو إلى استنفار الجهود ووضع استراتيجية شاملة لمواجهة التقدم الصهيوني في القدس.
فعلى الصعيد الدولي ينبغي تكثيف الجهد الدبلوماسي للدول العربية والإسلامية لزيادة الضغط على "إسرائيل" وتجريمها دوليا. بالتوازي مع تكثيف الضغط الشعبي على "حلفاء إسرائيل" من الدول العربية لإشعارها بحجم الخسارة التي ستتعرض لها في حال تغاضيها عن تقسيم المسجد الأقصى، وذلك من خلال التعبئة الجماهيرية والنشاط الإعلامي المناصر للأقصى. وكذلك الضغط على الفصائل الفلسطينية وخاصة حركة فتح لتعبئة قواعدها في فعاليات الدفاع عن القدس. ومطالبة السلطة بربط تحركها السياسي بحماية القدس والمسجد الأقصى.
كما تبرز الحاجة الماسة لزيادة الدعم المادي والمعنوى للمرابطين في الأقصى ولسكان القدس عموما من خلال مختلف المؤسسات الرسمية والشعبية، وذلك بهدف تفعيل حالة ثورية مستدامة تشكل حماية للمسجد الأقصى في وجه الأطماع الصهيونية.