إنَّ من الطبيعي أن ترى من يعيش تحت الاحتلال عاشقاً للبندقية متعلّقاً بها، مؤمناً بدورها للوصول إلى التحرير والخلاص، فامتلاك السلاح حقٌّ للمظلومين والمضطهدين والمستضعفين، وقد أدرك أعداؤنا أهمية هذا الأمر منذ البدايات، فقامت سلطات الانتداب البريطاني بإمداد العصابات الصهيونية بمختلف أنواع الأسلحة وسهلت لها الحصول عليها، بينما منعت الشعب الفلسطيني صاحب الأرض من امتلاك أيّ سلاح للدفاع عن نفسه، وفرضت عقوبات قاسية على كل مخالف لتلك الإجراءات وصلت حدّ الإعدام في بعض الحالات، وكانت تلك السياسة من أهم الأسباب التي أدَّت إلى النكبة وقيام الدولة الصهيونية فوق القسم الأكبر من أرض فلسطين، ووقعت بقية الأرض تحت السيطرة المصرية في غزّة والأردنية في الضفة.
وبدل أن تقوم هذه الأنظمة بتدريب الشعب الفلسطيني وتسليحه على نطاق واسع، مارست السياسة نفسها، ونزعت ما تبقى من أسلحة بين أيدي الناس، ومنعت الشعب من تدبير أموره بنفسه، حتى إذا جاءت الهزيمة النكراء في العام 1967م، اندحرت هذه الجيوش وفرّت من ساحة المعركة في سويعات معدودة، وتخلّت عن مهمتها في حماية الشعب والأرض، ووقف الشعب الفلسطيني الأعزل عاجزاً أمام أسلحة البطش الصهيونية.
وهكذا يكمل الاحتلال سيطرته الكاملة على فلسطين، بما في ذلك المسجد الأقصى درَّة الأرض ورمز القضية، وعلى الفور باشر الاحتلال وما زال بملاحقة السلاح واعتقال من يقتنيه أو يشتريه، ومحاكمة من يتدرب عليه حتى لو كان ذلك خارج حدود فلسطين، بل إنَّ الاحتلال أقدم على قتل كثيرين ممَّن خططوا لاستعمال السلاح في المقاومة، وحتى بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عقب اتفاقية أوسلو، فقد تمَّ تجريم سلاح المقاومة واعتباره خارجاً عن القانون.
لا شك أنَّ هذه الهجمة المستمرة على السلاح منذ الانتداب البريطاني وحتى الآن قد أربكت علاقة الفلسطيني بالسلاح وأحدثت نوعاً من الرّعب في التعامل معه جعلت البعض يرتجف لمجرد رؤية السلاح أو الحديث عنه، وهذا يعدّ خللاً في العقلية والنفسية لشعب يعيش تحت الاحتلال.
شرعية السِّلاح
إنَّ مقاومة الاحتلال مشروعة بكل أشكالها، والسلاح يتبع تلك الشّرعية، ولا يُقبل التناقض الذي يُبديه البعض حين يزعم أنَّه مع المقاومة في حين يرفض فكرة تسليحها، وهل يراد للشعب أن يطرد المحتل بالشعارات والهتافات والخطابات؟!.
من المعلوم أنَّ الدول والشعوب تمتلك السلاح وتنشئ الجيوش للدفاع عن نفسها من الاعتداءات الخارجية، وليس لضبط النظام والأمن الداخلي.
"لا يُقبل التناقض الذي يُبديه البعض حين يزعم أنَّه مع المقاومة في حين يرفض فكرة تسليحها، وهل يراد للشعب أن يطرد المحتل بالشعارات والهتافات والخطابات؟!"
ونحن لسنا دولة وإنّما سلطة تعيش تحت الاحتلال، ولو تمكنّا من إقامة دولة مستقلة على جزء من الأرض، فإنَّ حالتنا تبقى خاصة ومميّزة، لا يصلح فيها القول إنَّنا نريد سلاحاً واحداً فقط وإنَّ السلاح الشرعي هو سلاح السلطة فقط.
وقد أثبتت الوقائع أنَّ أجهزة السلطة لا تريد ولا تستطيع مقاومة الاحتلال وردّ العدوان وفقاً لاتفاقية أوسلو، ولذلك فإنَّ هذه المهمَّة تصبح ملقاة على عاتق رجال المقاومة ومقاتليها، والحديث عن خطورة ازدواجية السلاح لا معنى له طالما التزم المقاومون بتوجيه سلاحهم نحو العدو أو لحماية المقاومة من الملاحقة والتضييق، كما يمكن للسلاح الفردي أن يصبح جزءاً من حياة الناس إذا رافق ذلك ثقافة إيجابية في طريقة استخدامه.
طهارته
يبقى هذا السلاح نقيّاً طاهراً طالما استخدم ضد الاحتلال أو للدفاع عن الشعب والمقاومة، وتلك هي مهمته الأساسية التي لا خلاف عليها.
لكنّه يفقد طهره ويضلّ طريقه وتتأثر شرعيته عندما يستعمل بطريقة سلبية، وأول ذلك أن يتم زجّه لحلِّ الخلافات الشخصية أو المشاكل العائلية والعشائرية، أو لتحقيق مصالح ذاتية، أو الاعتداء به على الآخرين وتهديدهم وابتزازهم، أو لزرع الرّعب والخوف بين الناس، وكذلك الأمر حين يصبح حمل السلاح من أجل المفاخرة والغرور والتعالي على الغير، أو من أجل جلب الانتباه أو الاستعراض الذي لا هدف له، ويمنع استخدامه للتدخل في خصوصيات الناس أو علاقاتهم الاجتماعية الداخلية.
مصادره
يمكن للمقاومة أن تحصل على سلاحها من مصادر مختلفة وبطرق عديدة، وتتباين هذه المصادر من حيث الأمن والسلامة والسرعة والسهولة والاستمرارية والدوام والنوعية والكمية، وتختلف هذه الأمور من ظرف إلى آخر، والوضع في الضفة يختلف عنه في غزّة.
والحال في القطاع اليوم شأن آخر لا مثيل له وهو مؤهّل للنمو والتطوّر على نطاق كبير، بحيث لا يمكن المقارنة بينه وبين الضفة، ولذلك فنحن هنا نتحدّث بصورة عامَّة وبأفكار مجرّدة تفتح الآفاق لعقلية واعية.
أول المصادر ما أخذ من العدو غنيمة غصباً عنه بعد هجوم مفاجئ تشنّه المقاومة وقد فعلتها حماس أكثر من مرّة، لكن الأمر فيه مخاطرة، ومع أنَّ السلاح في هذه الحالة يكون آمناً غير أنه مصدر محدود لا يلبّي احتياجات المقاومة، وفيه علّة أخرى جديرة بالانتباه وهي إمكانية تتبّع هذا السلاح وربط الخيوط وتحليل الأحداث للوصول إلى رجال المقاومة.
وتبقى السَّرقة من مخازن العدو أسهل وأيسر وهي ليست مسألة مستحيلة كما قد يظن البعض؛ إذ لا تكاد تمرّ بضعة أيام إلاَّ وتحصل سرقات كهذه صغرت أم كبرت، وهذا ما يقرّ به جيشهم وتنشره وسائل إعلامهم، رغم أنَّ الحديث غالباً ما يتعلّق بحوادث جنائية دافعها المال والثروة.
تهريب السِّلاح عبر الحدود مصدر آخر له أهميته البالغة في دعم المقاومة، وهو فن له أصوله وقواعده ورجاله المختصون، وقد أبدع فيه أهل غزّة بشكل منقطع النظير، وتجاوزوا كل العقبات رغم الحدود القصيرة والمراقبة الشديدة والمتابعة المتواصلة، وضربوا أروع الأمثال، وهزمت إرادتُهم قدراتِ الاحتلال، وتجاوزوا كل المعوّقات وكسروا الحصار الذي تشارك فيه أعداء الداخل والخارج ودعمته قوى دولية وإقليمية.
والضفة تحبو أو تكاد على هذا الطريق، ورغم اختلاف المكان والتضاريس إلاّ أنَّ الفكرة تبقى واقعية وقابلة للتنفيذ إذا وجدت همَّة عالية وخطة عملية ومحاولات جادة وآراء مبتكرة وتجارب متراكمة، ورفض لحجّة المستحيل، وبحث عن الأدلّاء، ودعوات بالتوفيق، وتوكّل صادق مع استعداد للتضحية، وأقدام ثابتة وأيدٍ خفيفة وعيون ترقب، وحركة تعمل في الخفاء، ونيَّة مخلصة ثمَّ يقدر الله ما يشاء.
التصنيع والتطوير مصدرٌ فيه الكثير من التعقيد والعقبات، ويحتاج إلى خبرات فنية ومهارة يدوية، لكنَّه ممكن إذا وجد التصميم والعزم والإصرار، وإذا توافرت القناعة والإرادة، وقد قطع المقاومون في غزَّة شوطاً كبيراً في هذا الميدان، فأتقنوا عمل الأسلحة الفردية واخترعوا الصواريخ المحلية الصنع والتي حملت اسم "القسام"، وكان عندهم "الياسين" و "البتّار" وغيرها من الأسماء للأسلحة المتقنة التي زرعت الرّعب لدى العدو وفتحت آفاقاً جديدة في الصراع.
*من كتابه "لافتات على طريق المقاومة" – باختصار-