من بين أهم المصطلحات التي نُحِتَت على مستوى الحركة الإسلامية في وقتنا الراهن، مصطلح "صحوة التوحيد"، والذي حاول عدد من المفكرين وطلبة العلم من خلاله، العمل على محاولة التنبيه إلى مخاطر الافتراق الراهن ما بين ألوان الطيف السياسي والفكري للحركة الإسلامية، والذي يصل إلى درجة الاقتتال والتحالف مع أعداء الأمة والمشروع، في الداخل والخارج.
في سُورة "النُّور"، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62)}.
فمن بين أهم صفات المؤمنين كما وردت في القرآن الكريم، هي صفة "الجماعة" و"الإجماع" لو صح التعبير، ولأهميتها؛ فقد أكدت السُّنَّة النبوية على خطورتها، بحيث صار المفارق للجماعة مثل تارك دينه، كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود "رَضِيَ اللهُ عَنْه"، عن الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، أنه قال: "لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" [متفق عليه].
فالالتقاء على الأمر الجامع الذي لا خلاف عليه، أحد أهم سمات جماعة المسلمين، بل هي أهم هذه السمات؛ حيث قوة الأمة في تمسكها بعقيدتها، وبتعاليم كتاب الله تعالى وسُنَّة الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وفي تمسكها بوحدة صفها.
ويدل على أهمية ذلك الحديث، أنه وعبر التاريخ؛ كانت الأولوية الرئيسة للقوى المعادية للأمة، تحقيق الفصل بين المسلمين وبين القرآن الكريم، وفصم عُرى الجماعة المسلمة، وتشتيت شمل الأمة.
"الالتقاء على الأمر الجامع الذي لا خلاف عليه، أحد أهم سمات جماعة المسلمين؛ حيث قوة الأمة في تمسكها بعقيدتها، وبتعاليم كتاب الله وسُنَّة الرسول الكريم، وفي تمسكها بوحدة صفها"
وفي حقيقة الأمر، ووفق تطورات الأمر الواقع حاليًا؛ فإن هذه القضية تكتسب أكبر قدر من الأهمية، في ظل التحولات النوعية الحاصلة في طبيعة الانشقاقات القائمة داخل أمة المسلمين.
فقد كانت المشكلة الرئيسة التي تضعف صف الأمة، هي ثنائية سُنِّي/ شيعي، وعبر التاريخ، كانت هذه الثنائية هي نقطة ضعف جبهة الأمة الداخلية، أما في وقتنا الراهن؛ فإن الانشقاقات والحروب الدموية، صارت داخل صف أهل السُّنَّة والجماعة، وبين الفصائل المختلفة التي يعتبر كل منها نفسه هو المعبِّر عن صحيح الدين؛ فصارت فتنة شاملة في العقيدة والسياسة، وعلى مختلف المستويات.
ويخالف هذا الذي يجري كل الأسس والقواعد التي حاول الآباء الأوائل للصحوة الإسلامية في عصرنا الحديث إرساءها خلال العقود الأولى للصحوة، في نهاية القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين؛ حيث كان الحوار والتضامن على قضايا الأمة الرئيسة، هو الأساس في العلاقة التي جمعت ما بينهم.
وكان ذلك نابعًا من قناعة شديدة الأهمية، وهي أن الأسس المشتركة ما بين كل لون من ألوان الطيف الحركي الذي ظهر، من الرواسي الراسخات، مثل عقيدة التوحيد والقرآن الكريم وصحيح السُّنَّة، وتجُب كل ما عداها من الخلافات في الفرعيات وحول الأوائل والوسائل.
والقارئ الجيد للتاريخ، يجد ذلك في العلاقة التي جمعت ما بين الإمام الشهيد حسن البنا، وبين رموز السلفية الجهادية المحدثين، وعلى رأسهم الإمام أبو الأعلى المودودي، بل ولقد وصل هذا النضج الفكري إلى مستوى محاولة دمج الشيعة، في الحِراك الذي كان سائدًا في ذلك الوقت، من أجل إخراج الاستعمار من بين ظهرانيي الأمة، والعمل الجاد والحقيقي من أجل استعادة خيرية الأمة، ودولة الخلافة الجامعة التي قضى عليها الاستعمار، بمساعدة قوى الفساد والإفساد الداخلية.
وقاد إخلاص النية في هذا الأمر، إلى إطلاق مشروع "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية"، من جانب الأزهر الشريف، عام 1948م، والتي ضمت عددًا كبيرًا من كبار العلماء السُّنَّة والشيعة، كان من بينهم الإمام حسن البنا ورجل الدين الشيعي محمد تقي القمي.
ينطلق ذلك من حقيقة أصولية مهمة، صاغها الإمام البنا في بعض الأصول العشرين، التي وضعها، وحدد فيها فهم الإخوان المسلمين للإسلام، من خلال القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية، ووردت ضمن أركان البيعة، في ركن الفهم، في رسالة "التعاليم" للإمام البنا.
ومن بين أهم هذه الأصول في هذا الصدد، ما جاء في الأصل العشرين، والذي يقول فيه البنا: "ولا نكفر مسلمًا أقرَّ بالشهادتَيْن وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض برأي أو بمعصية إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلاً غير الكفر".
وكان من المفترض أن تحكم هذه الرؤية العلاقة بين المسلمين، فرادى وجماعات، في المرحلة التالية من مراحل الصحوة، في السبعينيات والثمانينيات الماضية؛ حيث كانت أرض أفغانستان نقطة تلاقٍ مهمة لمختلف ألوان طيف المشروع الإسلامي، ولكن الارتكاسات بدأت بعد ذلك، بفعل قوى الفساد والاستبداد الحاكمة في كثير من بلدان عالمنا العربي والإسلامي، وكرستها قوى الاستكبار العالمي التي ترفض أي شكل من أشكال التقارب بين مكونات الأمة المختلفة.
والمؤسف القول إن هذه الأنظمة والقوى العالمية، استغلت حالة الصحوة، وما رافقها من بعث لفكرة الجهاد، من أجل التأسيس لمجموعات خارجة عن الجماعة، من أجل ضرب المشروع الإسلامي من داخله، وإراقة دماء المسلمين بأيدي من هم مفترض أنهم من أبناء هذا الدين.
إن الأولوية الراهنة هي للدعوة والتنادي إلى تأسيس إطار جامع للأمة، على غرار المشروعات التي حاولها البنا والأزهر الشريف في الأربعينيات الماضية، مع نفي الخبث القائم بين ظهرانيي الحركات الإسلامية، وإبراز حقيقة بعض الأطراف التي تسللت إلى المشروع وحملت اسمه زورًا وبهتانًا.
إن العمل على تأسيس مثل هذا الكيان، سوف يكشف حقيقة مواقف الكثير من الأطراف وما تدعيه في صدد انتمائها للمشروع الإسلامي، وأنها تعمل على تحقيق مصلحة الأمة كما تراها.
والمهمة الرئيسية في هذا الإطار، هي التفريق ما بين حَمَلَة المشروع الحقيقيين، وبين المُدَّعين الذين تسللوا بين صفوف الأمة لواذًا؛ خوارج هذا العصر الذين يحملون سلاح العدو الحقيقي المستتر ورائهم لتحقيق أغراضه في استكمال عملية الإجهاز على الأمة، من دون التورط المباشر في الأمر حرصًا على مصالحهم السياسية والأمنية.