عيد وفاة سعيد

الرئيسية » بصائر تربوية » عيد وفاة سعيد
salah

جرت العادة التي رسّخها العرف الدارج أن يتبادل الناس التهنئة بيوم الميلاد، والذي اصطلح على تسميته بالعيد مبالغة في التعظيم من شأنه وقيمته، واخترعت له طقوس تدعم مكانته في النفوس وتحفر أبلغ الأثر في النفس والروح..

فالكثير الكثير يفتح عيناه على تلك المناسبة السنوية بإشعال الشمعة الأولى من عمره وإطفائها في جو احتفالي بهيج تجتمع فيه الأسرة لتناول الحلوى والمرطبات، مع ما يرافق ذلك من هدايا وألعاب تجعل قلب الطفل يخفق لتلك المناسبة السنوية الفارقة.

يكبر الناس ويكبر تعلقهم بتلك المناسبة بجعلها محطة وفاق أو افتراق بين الأحباب على قدر تذكرها بينهم وحفاوتهم بها خاصة بين الأصدقاء والأصحاب والأزواج، فكم من خلاف زوجي اشتعل أواره وتعاظم خطره لنسيان الزوج أو الزوجة تلك المناسبة أو حتى مجرد التقليل من شأنها أو الاهتمام بها.. وفي المقابل فالقصص كثيرة عن عجائز لم تمنعهم تجاعيد وجوههم وانحناء ظهورهم وضعف أسماعهم وأبصارهم من المحافظة على تقليد إطفاء شموع ميلادهم وقد بلغوا من العمر عتيا.

وحقيقة الأمر لكل فطنٍ مدركٍ لمآلات الأمور أن يوم الميلاد إنما يذكر بيوم الوفاة والرحيل، فذكرى ميلادنا تنبئنا بأن كل من له بداية لا بد له من نهاية، وأن ما بقي قد يكون أقل مما مضى، فكل شروق لابد أن يعقبه غروب، وكل ارتفاع يتلوه انخفاض، ولا يعقب النهار إلا الليل، وما بعد الحياة إلا الممات.

غير أن الفارق كبير بين اليومين، فلا معنى للتهنئة بيوم لا اختيار لنا فيه، ولا فضل لنا بشيء منه، ولا معنى له سوى دخولنا دار الاختبار ومحل الابتلاء، لا ميزة لذلك اليوم الذي لم نكن نقدر فيه على شيء سوى تحريك الشفتين لمص الحليب!

إن اليوم الذي يستحق الاحتفاء والاحتفال به هو ذلك اليوم الذي نستريح فيه من عناء الدنيا وفتنها وكربها ومصائبها كما جاء في الحديث الصحيح أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازةٍ، فقال: مُستريحٌ ومُستراحٌ منه. قالوا: يا رسولَ اللهِ، ما المستريحُ والمستراحُ منه؟ قال: العبدُ المؤمنُ يَستريحُ من نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمةِ اللهِ، والعبدُ الفاجرُ يَستريحُ منه العبادُ والبلادُ، والشجرُ والدَّوابُّ. (صحيح البخاري).

إنه ذلك اليوم الذي يعدّ له المؤمن بأعمال صالحة، وقلب وجلٍ مشفق من لقاء الله تعالى، وروح تواقة للقاء الأحبة محمداً وصحبه، كما روت الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحبَّ لقاءَ اللهِ، أحبَّ اللهُ لقاءَهُ. ومن كرِهَ لقاءَ اللهِ، كرِهَ اللهُ لقاءَهُ. فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ! أكراهيةَ الموتِ؟ فكلُّنا نكرهُ الموتَ. فقال: ليس كذلك. ولكنَّ المؤمنَ إذا بُشِّرَ برحمةِ اللهِ ورضوانهِ وجنَّتِهِ، أحبَّ لقاءَ اللهِ، فأحبَّ اللهُ لقاءَهُ. وإنَّ الكافرَ إذا بُشِّرَ بعذابِ اللهِ وسخطِهِ، كرِهَ لقاءَ اللهِ، وكرهَ اللهُ لقاءَهُ) (صحيح مسلم).

معانٍ كثيرة تحضر لحظة التذكير بيوم الميلاد أجلّها وأرفعها محاسبة المرء نفسه عن الأيام والأعوام التي مضت من عمره، كيف كان حاله فيها وكيف كانت علاقته مع ربه فيها، كيف كانت صلاته هيأة وخشوعاً والتزاماً بالجامع والجماعة، وكيف كان بره وصلته بوالديه وأرحامه؟ وعلى أي حال من الرضا أو السخط سيودعوه لحظة رحيله؟ وما الذي قدمه خلال أعوامه المنصرمة لأمة تئن وأقصى يشتكي؟

وماذا عساه أن يستدرك على أخطائه وزلاته وعثراته، أو يواصل المسير في درب البناء والإحسان ليترك بصماته بعد رحيله، وليكون كما قال شوقي: وكن رجلاً إن أتوا بعده يقولون مرَّ وهذا الأثرْ.

إنه التحدي الكبير الذي يستحق التهنئة الكبرى بالفوز والفلاح والتي جسدتها كلمات الصحابي الشهيد حرام بن ملحان رضي الله عنه لمّا أحس حرارة السنان للطعنة الغادرة تنفذ إلى قلبه والدم يتدفق ساخناً من جسده فقال قولة من عمل لتلك اللحظة بل وانتظرها وتاقت نفسه إليها: الله أكبر.. فزت ورب الكعبة. إنها لا تصدر إلا عن عارف بالله، موقن بما أعده لعباده المؤمنين، مطمئنة نفسه لما ينتظرها لحظة خروج الروح على هذه الحالة وبهذه الطريقة.. فمن كانت حياته إعداداً ليوم مماته يوشك ألا يموت إلا كما أراد هو وخطط، وذلك مصداق قوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، لا خوف عليهم في حياة البرزخ، ولا خوف عليهم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، ولا خوف عليهم من أهوال الحشر والبعث والنشور.

إنهم كانوا يتخذون من آية "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" شعاراً لهم، اتباعاً لنهج نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان يردده في افتتاحه لكل صلاة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ أنه كان إذا قام إلى الصلاةِ قال: "وجَّهتُ وجهي للذي فطر السماواتِ والأرضِ حنيفًا وما أنا من المشركين. إنَّ صلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا من المسلمِين".

إن البعض لا يكاد يستوعب سوى معنى المحيا لله، أي أن تصرف وجهك لله وحده وتوجه أعمالك كلها بنية صادقة خالصة لله وحده، كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه، حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.

أما كيف يكون الممات لله؟ فذلك ما لا يفهمه أو يتقنه إلا من عرف أنه لا محالة راجع إليه، ومقبل عليه، وجعل جهده كله أن يحيا له ليكون موته ثمرة أعمال حياته، فمن عاش طائعاً لله سيموت طائعاً له، ومن عاش مقبلاً على الله سيكون موته إقبالاً عليه، ومن سعى للشهادة في سبيل الله، جعل الله موته شهادة وإن مات على فراشه، ومن بكى إشفاقاً من تلك اللحظة، أمّن الله خوفه وأذهب حزنه وجزعه. لن يكون الممات لله إلا إن كان كل عمل يقصد به أجره وثوابه بعد موته، ولا يكون ذلك إلا إن كان العمل خالصاً لوجه الله تعالى.

وعى ذلك كتاب السير والتاريخ فكانت عنايتهم بتاريخ الوفاة أكثر من عنايتهم بتاريخ الميلاد، بل وصرحت بذلك أسماء كتب للتراجم مثل كتاب (وفيات الأعيان) لابن خلكان وكتاب (الأخبار العليات من الوافي بالوفيات) لصلاح الدين الصفدي.. وغيرهم. وما ذلك إلا دلالة على أهمية تاريخ الوفاة إذ هو يؤرخ للحقبة التي رحل فيها ذلك الشخص، وهو ما يعني ضمنياً تأثيره فيها، وأثر رحيله، ومن سار على دربه وتأثر بنهجه ومن وعى عنه ونقل عنه.

إنها وقفة مع كل من يمر عليه يوم ميلاده -وقد كنت قريب عهد بذلك- أن يجعله يوم عظة وعبرة ومحاسبة للنفس وتذكر للمآل ونقطة تحول إيجابية نحو أحوال وأفعال وأعمال يمكن أن تجعل يوم الوفاة يوم فرح وسرور وسعادة غامرة تنبعث فيه التهاني والتبريكات بهذا اليوم، ويقال فيه عيد وفاة سعيد!!

معلومات الموضوع

الوسوم

  • التقوى
  • الموت
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

    شاهد أيضاً

    “بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

    كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …