حكمت المحكمة بالبراءة.. باختصار كانت تلك العبارة التي أسدل فيها الستار على تلك المسرحية المسماة بـ"محاكمة القرن". فمحاكمة القرن لم تكن ضد حاكم تجبر وظلم وقتل وخان دينه وشعبه، وإنما كانت لتطلق الرصاصة الأخيرة على ما تبقى لدى القضاء من عدالة وإنصاف واستقلالية.
في عصر القرن الواحد والعشرين، والذي يتغنى فيه العالم بحقوق الإنسان والدفاع عنها، يُبرّأ القاتل بعد أن سفك رجاله الدماء أمام مرأى الناس جميعاً، وفي الوقت نفسه تتوالى أحكام الإعدام والمؤبد على من وقف مع المقتول، وتعرض للسجن والتعذيب والامتهان طيلة فترة حياته، بحجج وتهم واهية، لا تستطيع إلا أن تضحك من تفاهتها وكذبها.
سيسجل التاريخ، أن في عصرنا الحالي، خرج الظالم ومن معه من القتلة بريئين من تهم وثقتها الكاميرات والشاشات، وشهد عليها الكثير من الناس. في حين يحكم على بعض من ماتوا قبل سنوات، أو من هم مسجونين في سجون الاحتلال، أو محاصرين في غزة، أو حتى كباراً في السن لا يقوى أحدهم على رمي حجر واحد، بالإعدام والسجن، لتهم تتعلق بالتعذيب والقتل!!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل قضى بغير الحق، فعلم ذاك، فذاك في النار. وقاض لا يعلم، فأهلك حقوق الناس، فهو في النار. وقاض قضى بالحق، فذلك في الجنة" [ أخرجه الترمذي].
إِذا خَـــانَ الأميرُ وكاتباهُ *** وقاضِي الأَرْضِ داهَنَ في القَضاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيلٌ *** لِقاضِي الأَرْضِ منْ قَاضِي السَّــمــاءِ
"في هذا اليوم يعلن القاضي صراحة عن وفاة ثورة يناير، وعودة الظروف السابقة بأسوأ حالاتها داخلياً وخارجياً، في تحدٍ جديد لروح الحرية التي سجنتها المؤامرات والانقلابات عبر القتل والتخوين والإبعاد"
إذن هي نفوس أزهقت دون أن تثأر من قاتلها، وآخرون أصيبوا وأوذوا وجرحوا، تحت حجة القضاء والقدر، وكأن حكم القاضي فيه رسالة لهم أن هذا جزاء من يخرج على حاكمه وظالمه، فلا قيمة لأرواحكم ولا لأجسادكم.
في هذا اليوم يعلن القاضي صراحة عن وفاة ثورة يناير، وعودة الظروف السابقة بأسوأ حالاتها داخلياً وخارجياً، في تحدٍ جديد لروح الحرية التي سجنتها المؤامرات والانقلابات عبر القتل والتخوين والنفي والإبعاد.
ثلاث رسائل..
إن ما جرى اليوم يبعث ثلاث رسائل لأصناف متعددة، وهم:
القاضي:
قال صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة ، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أن لم يقض بين اثنين في تمرة قط". فإذا كان هذا حال القاضي العادل، فكيف بمن يصدر الحكم بالبراءة على القتلة والمجرمين. إن القاضي الجائر، لن يكون مصيره إلا مزابل التاريخ، وإنه حينما يصبح ألعوبة بيد ظالمه، فإنه سيشرب يوماً من نفس الكأس الذي أشربه لغيره، بعد أن ينخلع عن كل ما يتحلى به القاضي من نزاهة وعدالة. فهو لا يمثل لدى هؤلاء الظلمة أية قيمة، بل لا يختلف عن أي بلطجي يقتل أو يسرق، فذاك يسرق ويقتل ملمثاً أو بحماية الجيش، وذاك يقتل باسم القانون.
لقد كان علماؤنا يقولون: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين. لأنه حينما يبرئ القاتل مع أن كل الأدلة تقطع بضلوعه ومسؤوليته عنها، فإنه يعتبر قاتلاً وشريكاً للقاتل الحقيقي، وكذلك الحال حينما يوقع حكم الإعدام على من ثبتت براءته تماماً كحال الآلاف ممن يقبعون في سجون الانقلاب في مصر.
أهالي المقتولين والشهداء:
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يجِيءُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَأْسِ صَاحِبِه– وفي لفظ: يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا- يَقُولُ: رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ قَتَلَنِي؟" (رواه أحمد وابن ماجه والنسائي). فلئن ضاعت دماء أبنائكم عند قضاة الجور والظلم، فإنها لن تضيع عند الله تعالى، وكيف تضيع والله سبحانه يقضي بين جميع خلقه حتى البهائم والحيوانات.
فعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً، وشاتان تقترنان، فنطحت إحداهما الأخرى فأجهضته، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يضحكك يا رسول الله! قال: "عجبت لها، والذي نفسي بيده، ليقادنّ لها يوم القيامة".
"أيها الظالمون: لا تحسبون أنكم بصنيع قضائكم الهزيل، ستكونون في منعة عن شعوبكم، وحماية عن غضبها وثأرها. فهناك ثورة تشتعل جذوتها في نفوس شعوبكم، وهي وإن لم تظهر بعد فإنها حينما تنفجر ستكون وبالاً عليكم"
في هذا يقول الشيخ علي القاري رحمه الله: "فإن قيل: الشاة غير مكلفة، فكيف يقتص منها؟ قلنا: إن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل، والغرض منه إعلام العباد أن الحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم" ثم يقول: "... وجملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوي والضعيف!!".
القتلة والظالمين:
يقول الشاعر:
إذا ما الظلوم استوطأ الظلم مركباً ... ولج عتواً في قبيح اكتسابه
فكله إلى صرف الزمان وعدله ... سيبدو له ما لم يكن في حسابه
لا تحسبون أنكم بصنيع قضائكم الهزيل، ستكونون في منعة عن شعوبكم، وحماية عن غضبها وثأرها. فهناك ثورة تشتعل جذوتها في نفوس شعوبكم، وهي وإن لم تظهر بعد فإنها حينما تنفجر ستكون وبالاً عليكم، لأن الشعب الآن أيقن أن لا حل إلا بثورة كاملة، تطيح بكم وبكل من عاونكم، فعندها ستندمون ولاة حين مندم.