ورد في الأثر أنَّ عمر الفاروق رضي الله عنه سمع مرَّةً رجلاً يدعو ربَّه فيقول: "اللهمَّ اجعلني من القليل"، قال عمرُ: "ما هذا الدُّعاء؟"، قال: أقصد قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}.[سبأ:13]. فقال عمر رضي الله عنه يخاطب نفسه: ((كل الناس أعلم منك يا عمر، اللهمَّ اجعلني من القليل الشَّاكر، لا من الكثير الساهي واللاهي)).
إنَّها عبادة الشكر، جاءت هذه الآية الكريمة لتقرّرها بأسلوب فريد لم يُعهد وصيغة لم تَردْ في القرآن الكريم إلاّ في آية واحدة من سورة سبأ، قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
وقد ذهب المفسّرون إلى أنَّ المعنى: اعملوا لله على وجه الشكر لنعمائه، وكونوا دائماً من الشاكرين، والتزموا بالشكر وداوموا عليه لله في أي عمل صالح تقومون به؛ فهو الذي قوّاكم على فعل الخيرات.
و"الشكور" اسم فاعل وصيغته مبالغة من شاكر، ويراد من "الشكور" أن يداوم على الشكر لله في كلّ أحواله، وأن يتقن عمله مخلصاً لوجه الله فيه، يشكر بلسانه، ويستحضر فضل الله عليه بقلبه، ويظهر شكره لله على جوارحه وأعضائه، فيلزم الصدق والأمانة والإتقان والحلال، ويتجنّب الغشّ والخيانة والإفساد والإهمال والحرام في المال والأقوال والأعمال والأفعال، ولما كانوا قلّةً بين الناس في كل عصر، فقد انتهت الآية 13 من سورة سبأ بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور}.
يقول صاحب الظلال: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور}.. (تعقيب يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها.. ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله.. وهم مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء.. فكيف إذا قصَّروا وغفلوا عن الشكر من الأساس.. وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله، وهي غير محدودة؟.. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه، وعن أيمانه وعن شمائله، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه. وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام!).
الشكر.. إيمانٌ وعملٌ
إنَّ الشكر من شعب الإيمان الجامعة، يملأ النفس رضاً بالخالق، والقلبَ سلامةً من الغلّ، ويورث الأخلاق شعوراً بالقناعة، لينعم صاحبها بالرَّاحة والسَّعادة والطمأنينة.
والشكر عملٌ وليس قولاً فحسب، والعمل يجب أن لا ينطلق من خوفٍ ولا من طمعٍ؛ بل من شكرٍ للمولى عزَّ وجل، ففي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة، قال: ((قام النبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم حتى تورّمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟)).
شكر النَّاس
وتفيضُ عبادةُ شكر الله تعالى إحساناً للناس، يقول ابن الأثير في (النهاية): (إنَّ الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان النَّاس ويكفر أمرهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر). فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ))، [رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
الشكر .. نجاحٌ وإبداع
يؤكّد خبراء على أهمية الشكر في حياة الإنسان الناجح، فالزوجة مثلاً التي تشكر زوجها على ما يقوم به، فإنَّ هذا الشكر يحفّزه للقيام بمزيد من الإبداعات والنجاح. فالامتنان يقدم لك المزيد من الدعم والقوة.
"الشكر طريقة قويّة ومؤثرة حتّى عندما يقدّم لك أحدٌ معروفاً صغيراً، فإنَّك عندما تشكره تشعر بقوَّة في داخلك تحفزك للقيام بالمزيد من الأعمال الخيّرة"
ويوضح الخبير "جيمس راي" هذه الحقيقة بقوله: إنَّ قوة الشكر كبيرة جداً فأنا أبدأ يومي كلّما استيقظت صباحاً بعبارة "الحمد لله"، لأنني وجدتها مفيدة جداً وتمنحني طاقة عظيمة! ليس هذا فحسب، بل إنّني أشكر الله على كل صغيرة وكبيرة، وهذا سرّ نجاحي أنني أقول "الحمد لله" وأكرِّرها مراراً طيلة اليوم!!
كما أنَّ للشكر تأثيراً مذهلاً في حياة معظم المبدعين، فالامتنان والشكر للآخرين هو أسهل الطرق للنجاح، والشكر طريقة قويّة ومؤثرة حتّى عندما يقدّم لك أحدٌ معروفاً صغيراً، فإنَّك عندما تشكره تشعر بقوَّة في داخلك تحفزك للقيام بالمزيد من الأعمال الخيّرة.
ويؤكّد الباحثون في علم النفس أنَّ الشكر له قوَّة هائلة في علاج المشاكل، لأنَّ قدرتك على مواجهة الصّعاب وحلّ المشاكل المستعصية تتعلّق بمدى امتنانك وشكرك للآخرين على ما يقدّمونه لك؛ ذلك أنَّ المشاعر السلبية تقف حاجزاً بينك وبين النجاح، لأنَّها مثل الجدار الذي يحجب عنك الرؤيا الصادقة، ويجعلك تتقاعس على أداء أيّ عمل ناجح.