طالعتنا كتب التراجم والسير أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم كانوا متفاوتين في درجات الفهم، وميادين العطاء، ودروب الاختصاص، ولاشكَّ في ذلك، فكتاب الله يؤكّد في آياته على هذا المعنى، قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. (النساء:95)، وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. (الحديد:10)، فمن الصَّحابة من اشتغل بالجهاد فأبلى بلاءً حسناً، ومنهم من اشتغل بالعلم فأبدع وحفظ للأمَّة مصادر دينها، ومنهم من اشتغل بالتربية والتوجيه والتعليم فساهم في إعداد الفرد والأسرة والمجتمع لتحمّل المسؤوليات، ومنهم من اشتغل بالقضاء والإفتاء، فحفظ الأمن وسلامة الأفراد والجماعات من الزَّلل والخطأ، ومنهم من اشتغل بالتجارة ليعزّز اقتصاد المسلمين ويؤمّن لهم أمنهم في الغذاء والكساء وغيرهما..
"لا يعيب صاحبُ تخصُّصٍ صاحبَ تخصِّصٍ آخرَ ما دام الجميعُ يعملون لمشروع وهدف واحد، بل تراه يحترم توجّه الآخرين إلى تخصّصات غير التخصّص الذي هو فيه ويتقنه"
ولا يعيب صاحبُ تخصُّصٍ صاحبَ تخصِّصٍ آخرَ ما دام الجميعُ يعملون لمشروع وهدف واحد، بل تراه يحترم توجّه الآخرين إلى تخصّصات غير التخصّص الذي هو فيه ويتقنه، وقد عِيب على أبي هريرة رضي الله عنه كثرة روايته لحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: (إنَّ النَّاس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدَّثت حديثاً، ثمَّ تلا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ… إلى قوله: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. (البقرة:159-160)، ثمَّ قال: إنَّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت ألزم رسول الله، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا الحديث). (صحيح البخاري).
إذاً هو الاختصاص، فقد تميّز الصَّحابة رضي الله عنهم في تخصصاتهم المتعدّدة والمتنوعة، وكانوا مثالاً يُحتذى في التزام الصِّدق والدّقة والإبداع والإتقان في شتى الفنون والأعمال، ممَّا يصعب حصرها أو جمعها، وهي مبثوثة في كتب الحديث النبوي والسيرة والتراجم، لكنَّنا نسعى إليها لنلتقط من معينها ملامح التميّز في الشخصية الإسلامية المثلى، لتكون لنا وجيل اليوم دليلاً وقدوة.
بين أيدينا في هذه الموضوع حديثٌ صحيحٌ، يضع فيه النبيُّ المعصوم عليه الصَّلاة والسَّلام أبرز التخصّصات التي أتقنها صحابته الكرام في عصرهم، وأدقَّ الفنون التي أبدعوا فيها، وأميز الصفات التي تحلّوا بها، ليشكّل منظومة متكاملة من التميّز، تنتظر منّا أن نقتبس من نورهم، وأن نقيس أعمالهم معتبرين، قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. (الحشر:2).
فعن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإنَّ لكلِّ أمَّةٍ أميناً، ألا وإنَّ أمينَ هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجرَّاح)). (هذا الحديث أخرجه ابن حبَّان في صحيحه وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه الأوسط، والترمذي وابن ماجه في سننهما).
إنَّ هذا الحديث النبوي الشريف معلم من معالم التربية الإسلامية، ويؤسس لمفهوم الحرية العلمية في تعدّد الاختصاصات وتنوّع الكفاءات في شتى المجالات لتصبّ كلها في خدمة الاكتفاء الذاتي للمجتمع والأمَّة الإسلامية وذلك بتكاتف وتعاون الأفراد، فالجميع يعمل ويبني ويساهم، كلٌّ من موقعه، وكلٌّ حسب طاقته، وكلٌّ حسب ميوله العلمية، ورغباته الفكرية، أو قدراته المهنية.
وكأنّي برسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يحفّز أبناء أمّته إلى ضرورة التميّز في تخصصاتهم، وإبداعهم فيها وتفنّنهم في تطويرها، ليعلن أنَّ أشهرهم في علوم الطب فلان، وأبدعهم في علوم الفيزياء فلان، وأمهرهم في فنون الفضاء والكون فلان، وإذا سألتهم عن علوم الطبيعة يرشدوك إلى فلان، وعن علوم الكيمياء والصيدلة يدلوك على فلان، فلا تخلو الأمَّة ورجالاتها من تخصص أو إبداع.