إنَّ حاجتنا اليوم إلى الثقة بكلِّ صورها حاجة مستمرة ودائمة ومهمَّة، وحاجتنا إلى مراجعتها وعرض أنفسنا عليها في هذه الآونة ضروري وأكثر أهمية، وتظهر حقيقة الثقة في مراحل الضعف والمحن والابتلاءات، إذ ليس صاحب الثقة مَن تنفرج أساريره وينشرح صدره ويتهلل وجهه حين يرى قوَّة الإسلام وعزّة أهله وبشائر نصره، وإنما يكون صاحب الثقة ثابتاً على المبدأ مهما حلك الظلام، واشتد الضيق، واجتمعت الكروب، وتكالبت الأمم، لأنَّ ثقته بالله كبيرة ويقينه بأنَّ العاقبة للمتقين، وأنَّ المستقبل لهذا الدين.
ولأهمية الثقة في حياة الفرد ودورها في حماية الصف من التصدّع والتآكل والانقسام، يلجأ المتحاملون والمتربصون بالدّعوة وأصحابها إلى أساليب التشويه والتشكيك والتحريض، وتصل إلى حدّ المضايقة والاعتقال والملاحقة والتخويف.
"أريد بالثقة اطمئنان الجندي إلى القائد فى كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة"
وقد وضح الإمام البنا في رسالة دعوتنا صنف المتحاملين علينا وموقفنا منهم، فيقول: "وإما شخص ساء فينا ظنه وأحاطت بنا شكوكه وريبه، فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم، ولا يتحدث عنا إلا بلسان المتحرك المتشكك، ويأبى إلاّ أن يلجّ في غروره ويسدر في شكوكه ويظل مع أوهامه، فهذا ندعو الله لنا وله أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا أتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا وإياه الرشد… ندعوه إن قبل الدعاء، ونناديه إن أجاب النداء، وندعو الله فيه وهو سبحانه أهل الرجاء، ولقد أنزل الله على نبيه الكريم في صنف من الناس: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. [القصص: 65]. وهذا سنظل نحبّه ونرجو فيئه إلينا واقتناعه بدعوتنا، وإنّما شعارنا معه ما أرشدنا إليه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل ((اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون)).
ما الثقة؟
يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: (وأريد بالثقة اطمئنان الجندي إلى القائد فى كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، {َلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. [النساء:65].
جوانب الثقة:
أولاً – الثقة في المنهج:
لا يمكن للمسلم أن يعمل، ويتحرّك، ويخالف هواه من غير قناعة بأنه يحمل منهجًا هو الحق كله، الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، قال تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}. [هود: 17]، وقال عزّ شأنه: {َتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}[النمل].
"يكون صاحب الثقة ثابتاً على المبدأ مهما حلك الظلام، واشتد الضيق، واجتمعت الكروب، وتكالبت الأمم"
إنَّ اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بأنَّ دينه هو الدين الوحيد الذي يتقبله الله من الناس بعد رسالة محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، وبأنَّ منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه منهج متفرّد لا نظير له بين سائر المناهج، ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر، ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه، إنَّ اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو -وحده- الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض لتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس، في وجه العقبات الشاقة، والتكاليف المضنية، والمقاومة العنيدة، والكيد الناصب، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان.
ثانياً – الثقة في القيادة:
يذكر الأستاذ مصطفى مشهور (رحمه الله) في كتابه (القدوة على طريق الدعوة) ما يوضح هذا المعنى فيقول: وعلى الفرد المسلم أن يثق بقيادته ثقة كبيرة لا حدود لها ثقة تبعث الاطمئنان الذي ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، فالقائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب. فالثقة بالقيادة أمر مهم في نجاح الدعوات، وإذا خالطه شيء في نفسه فليسارع في إزالته بالتبيين واللقاء والمصارحة، وألا يسمح لنفسه أن تتأثر بالشائعات المغرضة والتشكيك الذي يثيره الأعداء في صورة نصائح؛ بغرض بث الفرقة وتوهين العزائم والنيل من وحدة الجماعة.
ثالثاً – الثقة في عموم الإخوان:
ومع الثقة في القيادة عليه أن يثق بمن يسير معه في الطريق، فلا ينتقص من أحد، ولا يتعالى على أحد منهم، وليعلم أنَّ الأخ مع أخيه في الصف كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، والأخ الصادق يرى أنَّ إخوانه أولى بنفسه من نفسه، فهو إن لم يكن بهم ما كان بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره. ومن هنا وجب أن تقوى الثقة بين الأفراد فيزداد الحب والتقدير والاحترام.
دلالات الثقة ..
- الثقة هي حالة قلبية واطمئنان داخلي لا تفرض ولا تملى، وهي امتداد للحالة الإيمانية التي يحياها القلب الموصول بربّه سبحانه وتعالى.
- حالة عميقة متجذرة في أعماق النفس، فهي حقيقة وجوهر لا شعار ومظهر.
- هي الحالة من الاطمئنان القلبي بين الجندي وقائده متبادلة، فلا يمكن أن تتولد في نفس أحدهما، وهي منعدمة عند الآخر.
- حقيقة مستقرة في أعماق النفس- لها دلائل وشواهد ومؤشرات على وجودها واستقرارها، وهذه الدلائل والشواهد الأربعة حدّدها الإمام البنا وهي (الحب- التقدير- الاحترام- الطاعة)، وهي أيضًا شواهد متبادلة بين القائد والجندي.
وختاما:
إنَّ الثقة التي نريدها ونصبو إليها هي الثقة التي تحقّقت في أمّ موسى عمليا حين قال عنها: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. وهكذا ألقته في اليمّ ولم تخف ولم تحزن، مع أنَّ اليم خطير على الطفل الرضيع عادة، وكتب الله له النجاة، وتلقى فرعون الطفل الرضيع، ولم يخف من كفالته في قصره، لأنَّ الطفل الرضيع لا يخيف من ربّاه عادة، فكان هلاك فرعون على يديه، وهكذا تجري عجائب قدر الله سبحانه؛ ولذلك فإنَّ الأمَّة التي نخرها الشك، ونهشها القنوط لا يرجى خيرها ما لم تستعد الثقة واليقين بنصر رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------
مراجع :
- الثقة من أركان دعوتنا – محمد حامد عليوه.
- الثقة بنصر الله – محمود خزندار.
- القدوة في طريق الدعوة – مصطفى مشهور.
- ركن الثقة د. علي عبد الحليم محمود.