كشفت الحروب الأخيرة التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، عن مشكلة كبيرة صارت هي الشغل الشاغل للأجهزة الأمنية الوطنية العاملة في القطاع، وهي مشكلة العملاء الذين يتعاونون مع دولة الاحتلال الصهيوني.
أدت هذه المشكلة إلى العديد من التبعات الأمنية العميقة خلال مثل هذه الاعتداءات الإسرائيلية التي سقط فيها آلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من المصابين؛ حيث تسببت في تصفية عدد من كبار القيادات السياسية والعسكرية والأمنية للمقاومة الفلسطينية.
“كانت لهذه الاغتيالات التي تمت بسبب مشكلة العملاء أثرًا سياسيًّا وتنظيميًّا كبيرًا، مع صعوبة تعويض مثل هذه النوعية من الرجال”
وعلى أهمية هذه القيادات وغيرها؛ فإنه كانت لهذه الاغتيالات التي تمت بسبب مشكلة العملاء أثرًا سياسيًّا وتنظيميًّا كبيرًا، مع صعوبة تعويض مثل هذه النوعية من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وتم تشكيلهم وتشكيل خبراتهم عبر عقود طويلة من العمل الشاق.
والمتأمل في صور المجموعة التي قامت كتائب الشهيد عز الدين القسَّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بإعدامها خلال أيام العدوان الأخير على القطاع، في يوليو وأغسطس الماضيَيْن، وكذلك المطلع على بعض الشهادات والتقارير الخاصة التي تركز على طبيعة هذه النوعية من البشر؛ سوف يجد نفسه أمام ظاهرة سياسية ومجتمعية وليست أمنية فحسب، بما يفرض تطوير الآليات التي يتم التعامل بها معها.
أول المعالم التي توضح عمق أبعاد هذه المشكلة، وأنها أكبر من مجرد مشكلة أمنية؛ المستوى المعيشي والاقتصادي الذي عليه العملاء الذين يتم ضبطهم؛ حيث لا يبدو عليهم أي شكل من أشكال الثراء.
فمن خلال المعلومات المتداولة؛ فإن المقابل المادي الذي يحصل عليه هؤلاء بسيط، وقد يكون في صورة سلع وبضائع، وكان قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع في سبتمبر 2005م، قد يكون المقابل مجرد استثناء منازل العملاء من قطع التيار الكهربائي ومنح إضافية بسيطة للغاية من مواد الإعاشة، مثل الطحين وما إلى ذلك.
كما يشمل هذا أيضًا العلاقات المحرمة وما شابه ذلك من وسائل الإيقاع التي تستخدمها أجهزة المخابرات الإسرائيلية المختلفة، من أجل غرس أقدام ضعيفي النفوس في مستنقع الخيانة الآثم.
ويعكس ذلك، عمق المشكلة الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها الشعب الفلسطيني؛ حيث يسقط الكثيرون في بئر الخيانة، في مقابل مادي ضئيل للغاية، لا يتناسب حتى مع حجم المخاطر المرتبطة بهذه "المهنة" السوداء، وإن كان ذلك أمرًا لا يبرر الخيانة؛ فإنه على أقل تقدير يضع بعدًا أوسع للمشكلة أمام صانع القرار داخل القطاع.
كما يغيب الباعث السياسي عن نسبة كبيرة منهم، وهو المَعْلَم الثاني الذي يمكن استخلاصه من الشواهد القائمة، مما يشير إلى مشكلة أخلاقية وتربوية ذات أبعاد اجتماعية متعددة.
أما المعلم الثالث فهو حجم العملاء على مستوى العدد والانتشار في القطاع، لدرجة أنهم نجحوا في رصد عدد من قيادات المقاومة، ومكنوا الاحتلال من تصفيتهم، مما يشير إلى مخطط قديم يعود إلى ما قبل تحرير القطاع من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2005م، كان مقصودًا به ترك طابور خامس في القطاع، يخدم الأهداف الاحتلالية حتى بعد الانسحاب من غزة.
ولعل الجميع لم يزل يذكر إلى الآن أن أحد أبرز الملفات التي كانت تؤرق الاحتلال قبيل مغادرته قطاع غزة، مشكلة قرية العملاء أو قرية الدهنية التي كانت تقع جنوب القطاع، وكانت ملاذًا للمتعاونين مع إسرائيل، وفي النهاية تنكرت لهم!
وساهم في ذلك السياسات التي تبنتها السلطة الفلسطينية قبل سيطرة حركة "حماس" على القطاع في العام 2007م؛ حيث كان مستوى الفساد، بالإضافة إلى اعتبارات التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل، بمثابة بيئة مُثلى "لازدهار" هذه التجارة السوداء.
وهنا ثَمَّة ملمحٍ شديد الأهمية، وهو أن السلطة الفلسطينية خلال سنوات وجودها في القطاع، لم تميِّز بين خصومتها السياسية مع "حماس" وفصائل المقاومة والرفض الأخرى؛ حيث تم توظيف ملف العملاء من جانب السلطة في كثير من الأحيان، لاعتبارات تبادل المنفعة مع الكيان الصهيوني!
وبعد سيطرة "حماس" على القطاع، وبدئها في تنفيذ مخطط لاستعادة زمام الأمر الفلسطيني إلى مساحة المقاومة، بعد تضاعيف سنوات أوسلو العجاف التي لم تثمر عن أي شيءٍ لصالح القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني؛ ازدادت الحاجة إلى عناصر الطابور الخامس، من أجل استدراك مختلف أركان الصورة الداخلية في القطاع، الذي تحول إلى بؤرة تهديد هي الأهم في خاصرة المشروع الصهيوني.
“من بين أبرز التحركات المطلوبة لحل مشكلة العملاء، رفع وتيرة التوعية، بحيث تكون إعلامية ومجتمعية ودينية، تشمل جميع المؤسسات المختلفة كالمساجد والمدارس والجامعات والإعلام وغيرها"
الملمح أو المَعْلَم الرابع لهذا الملف الأسود، هو ارتباط بعض هذه المجموعات من العملاء بعصبيات عشائرية داخل القطاع، مما يجعل مواجهتهم بالحسم الأمني وحده، أمرًا عسيرًا لتهديد ذلك لمصالح أهم، مثل الاستقرار السياسي والمجتمعي داخل قطاع غزة، الذي هو عماد الجبهة الداخلية للمقاومة الفلسطينية، حتى بالنسبة للضفة الغربية.
هذه بعض جوانب الصورة المحيطة بهذا الملف الشائك المُعقَّد، الذي يتطلب أكثر من تحرك على أكثر من جبهة، بجانب الإجراءات الأمنية بطبيعة الحال، ومن بين أبرز التحركات المطلوبة، رفع وتيرة التوعية، بحيث تكون إعلامية ومجتمعية ودينية، وليس من خلال وسائط التواصل الاجتماعي فحسب.
ويشمل ذلك منابر المساجد والمدارس، بجانب وسائل التوعية المعتادة في المجتمعات المثيلة للمجتمع الغزي، مثل قوافل التوعية والمنشورات، مع التأكيد على أن رسالة الخيانة لن يكون ثمنها سوى الخيانة من جانب إسرائيل، التي تلقي عملاءها المحترقين كما تُلقي القمامة في أقرب سلة مهملات؛ فلا يبقى للعميل سوى الخزي في الدنيا والآخرة.
أما الإجراء الأهم في هذا السياق؛ فيتعلق بالتواصل مع عائلات هذه العناصر، من أجل تحقيق عنصر الضبط المجتمعي الذي من دونه لن يتم معالجة الأمر بالشكل الكامل.