السرعة والإيجاز في التواصل المعاصر بين المنافع والمضار

الرئيسية » بصائر من واقعنا » السرعة والإيجاز في التواصل المعاصر بين المنافع والمضار
twytr_2_0

كل شيء في عصرنا الراهن صار يجنح للسرعة، ويميل للاختصار.. نبض سريع يطبع المنتجات من حولنا في الأدب وطرق التواصل والإعلام والفن، وحتى في المأكل والمشرب.

في الشعر عرفت العرب المعلَّقات التي يتكوّن بعضها من أكثر من مئة بيت، لتتقلص الآن في عصر شعر التفعيلة والقصيدة النثرية إلى مقطع صغير، قد لا يتكوّن إلا من ثلاثة أو أربعة أسطر، وفي مجال القصص، عرفت الرواية أو القصة الطويلة، والقصة القصيرة، ليصل هذا الفن الأدبي في العقود الأخيرة إلى القصة القصيرة جداً التي لا تتعدى خمسين كلمة (مقطع واحد)، ومؤخراً إلى (القصة الومضة) التي لا يتجاوز طول بعضها ست أو ثماني كلمات.

وفي الفن كانت الأغاني طويلة، كأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بما في ذلك المقدمة الموسيقية التي كانت تستغرق عدة دقائق، ريثما يظهر المطرب على خشبة المسرح، أما في عصر الفيديو كليبات فالأغنية قلّما تستغرق أكثر من دقيقة واحدة أو دقيقتين.

وعرف الإعلام والإعلان ذلك، متجلياً في الصحافة بالمانشيتات والفقرات الإبرازية التي تركز على أهم ما في الأخبار والحوارات وأكثر ما فيها إثارة وغرابة، كما عرفت العمود الصحفي، وبعضها نصف العمود، والإعلانات الإذاعية والتلفزيونية التي لا يتعدى زمن بعضها نصف دقيقة، ومثلها إعلانات الطرق (الموبي) التي لا تتعدى كلماتها المكتوبة أحياناً ثلاث أو أربع كلمات.

وفرضت هذه السرعة نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، فنجد أن التغريدة الواحدة في "تويتر" يجب ألا تتعدى 140 حرفاً، فيما يفرض عليك "أنستجرام" ألا تكون مدة الفيديو أكثر من دقيقة وهكذا، والقائمة في هذه الخانة قد تطول، خصوصاً مع تزاحم الشبكات وولادة أسماء جديدة في ساحتها بين فترة وأخرى.

ولا يقتصر الأمر على الجوانب المعنوية وما يرتبط بغذاء العقول، بل سبقت ذلك أو توازت معه السرعة في المأكل والمشرب من خلال مطاعم الوجبات السريعة والأكل مسبق التحضير، بعيداً عن القيمة الغذائية لها وتقلص اللذة التي تصاحب تناولها، وقبل ذلك وبعده ومعه حلّ اللبس الجاهز الذي جاء ليتجاوز ألبسة التفصيل لدى الخياطين والخياطات، والتي تحتاج فيها أخذ أكثر من مقاس، والانتظار لمدد معينة حتى يتم إنجازها.

هل هذا الأمر بِدَعٌ في حياتنا، قديماً وحديثاً، وأين الوجوه الإيجابية والسلبية فيه، وما هي المخاطر المصاحبة لذلك، إن وجدت؟

معروف أنّ من مأثورات العرب أن "خير الكلام ما قلّ ودلّ"، وأن قِصَر الخطب اعتبر في تراثنا العربي علامة على بلاغة الخطباء، كما عرفت العرب الأمثال العربية، شأنهم شأن الأمم الأخرى، التي تختزل في كلمتين أو عدة كلمات معاني كبيرة، وتوصل رسائل متعددة، وكذلك أقوال المشاهير من حكماء وقادة.

وفي عهد الإسلام، عرفت الآيات الكريمة والسور القرآنية القصيرة ضمن قرآننا الكريم، واعتبر أن من أبرز دلائل نبوة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، أنه أوتي جوامع الكلم، وهي خاصية لم يعطها أحد قبله ولا بعده، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا"، واعتبر من فقه الرجل قصر الخطبة وإطالة الصلاة.

ولعلّ التخوفات المرتبطة بهذا الأمر تتصل بما يلي:

- الإيجاز والتقصير غير مقترن بالبلاغة والعبارة المشرقة، والحرفية في الكتابة أو الخطابة، في بعض الأحيان أو كثير من الأحيان، كما كان الحال في تاريخنا القديم، وبالتالي يفترض أن يحصل العكس، أي الإطالة لتعويض النقص البلاغي والقدرة على السبك الجميل للنصوص المكتوبة أو الملقاة.

ـ يقود الأمر لنوع من الكسل والتبلّد في القراءة والكتابة بلغتنا العربية، وتقليص مساحة المطالعة، وبالتالي غربة أجيالنا عن لغتهم الأم، قراءة وكتابة وتحدثا وفهما.

ـ الأمر مرتبط بنزعة استهلاكية صرفة، تتصل بأن إنسان هذه الأيام صار مجهدا من كثرة استهدافه من وسائط الإعلام والتواصل والإعلان والدعاية والتسويق، وكل يريد جزءا من وقته، لإيصال رسالته وضمان التأثير عليه، والحصيلة أن هذا الكائن البشري لم يعد بإمكانه أن يجد وقتاً يخلو فيه مع نفسه، أو يجتمع به مع أهله وأرحامه وأهل خاصته، ويهتم بالجوانب الاجتماعية والتربوية.

ـ مع أنّ تراثنا العربي عرف نماذج من أشكال التعبير القصير والموجز، تحدثا وكتابة، واعتبر ذلك من خير الكلام وخير سبل التواصل، إلا أنه عرف بموازاة ذلك وفرة المؤلفات، وسعة الاطلاع على المعرفة، وكان كثير من العلماء من ذوي العلم الموسوعي الذين يجمعون بين عدة علوم دينية ودنيوية، بعيداً عن الاكتفاء بتخصصات دقيقة فقط.

لكن بالمقابل ربما يكون لهذا النبض السريع، والتركيز على مختصر التعبير والحديث فوائد، بناء على معطيات زمننا الحاضر، وأعني بذلك أن هذا الإيجاز قد يكون نجاة للناس من شرور وأذى كثير من الذين يجلدون الناس بمطوّلات كلامهم وكتاباتهم وفنهم، لتكون الحصيلة تفاهة في ما يقدّم واستهلاكاً كبيرا من أوقات الناس وراحتهم، أو تكون الحصيلة غثاء كغثاء السيل، وزبدا لا يقدم ولا يؤخر، رغم الأوقات التي صرفت لأجله.

وحتى لا تذهبوا بعيداً تأملوا حال كثير من وسائل إعلامنا أو طوفان ما ينشر في وسائل التواصل أو تابعوا خطب كثير من الخطباء، أو مقالات وأحاديث من يتصدرون وسائل الإعلام ومنابر السياسة لتعرفوا ما المراد بالضبط، أو أصيخوا السمع إن شئتم لكثير من الفن الهابط الذي يزعج الذائقة الجميلة، فلربما رأيتم في ذلك خيرا كثيراً.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

من عوامل ثبات أهل غزة

قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم …