تمرّ علينا بعد أيام مناسبة تشغل الناس بمختلف شرائحهم، فتتزين الأسواق والمحال التجارية معلنة عن عروضات وتنزيلات، وتجتهد الفضائيات في تخصيص سهرات استثنائية لهذه المناسبة، كما تفرد وكالات الأنباء والإعلام المكتوب مساحات لحصاد أحداث العام الماضي (سياسياً وثقافياً واقتصادياً...)، ولا ننسى الشركات والمؤسسات التجارية التي تعتبر هذا التاريخ محطة أساسية لإجراء جردات الحساب والميزانيات..
وقد درجت العادة أن يحتفل قسم من الناس بهذه المناسبة، وابتكروا لها طقوساً عديدة، على الصعيدين الرسمي أو الشعبي، وكثير من هذه الاحتفالات تشوبها مخالفات شرعية..
وككل عام نخوض نقاشاً شرعياً متكرراً: هل يجوز الاحتفاء بهذه المحطة الزمنية وإظهار الفرح بها، أو على الأقل تخصيصها ببرنامج استثنائي (ثقافي أو تربوي أو فني)؟ وهل يجيز لنا الشرع تهنئة بعضنا بها؟
وسط هذا الجدال الدائر، من التهويل الحادّ والدعوة لتجاهلها، إلى التساهل المفرط بالاحتفال بها.. أسمح لنفسي بطرح تساؤلات وفتح نقاش للآراء التي تتصدر حولها.. بعد التأكيد على أن ما سيرد ليس من باب الفتوى، فأنا لست أهلاً لها.
دعونا ننطلق ابتداءً من فكرة أن مناسبة "رأس السنة الميلادية" هي غير مناسبة "عيد الميلاد" عند المسيحيين.. وإذا كان يوم (25 ديسمبر/كانون الأول) من كل عام هو مناسبة دينية يحتفل بها المسيحيون لها طقوسها الخاصة ويحرم المشاركة فيها، فإن "رأس السنة الميلادية" تحولت في الوعي العام – مع الوقت - إلى مناسبة إنسانية اجتماعية، تتوقف عندها الشعوب – كما ورد في المقدمة - التي تعتمد التأريخ الميلادي، باختتام عام واستقبال عام جديد.
وأودّ هنا أن أطرح عدة أسئلة في موضوع رأس السنة الميلادية:
من حيث المبدأ.. هل ثمة مانع شرعيّ إذا توافق أهل بلد أو مجتمع على تخصيص مناسبة معينة للابتهاج بها دون أن يكون لها أصل في التاريخ الإسلامي؟ ما المانع في أن يتوافق الناس مثلاً على الاحتفال بيوم الزيتون أو يوم النظافة، ضمن الضوابط الشرعية؟ أليست القاعدة الشرعية تقول: "الأصل في الأشياء الإباحة"؟
ومن يقول إننا نحن المسلمون لدينا عيدان فقط، بحسب قول النبي صلى الله عليه وسلم، فأقول: هذا صحيح.. لكن الاحتفاء والابتهاج بمناسبة ما، لا يعني – لزاماً - اعتبارها عيداً.
ألا تحتفي مدارسنا وجامعتنا باختتام العام الدراسي، فتنظم الاحتفالات ويفرح الأهل والطلاب وتزيّن القاعات ويأكلون الحلوى؟ هي مناسبة إنسانية نفرح فيها، دون تسميتها عيداً.
وإظهار الفرح بحدث ما، ليس له شكل واحد.. أحد أشكاله هي الحفلات الماجنة والسهرات المرفوضة حكماً.. لكنه ليس الوحيد.وهنا تقع على إعلامنا الإسلامي مسؤولية تغيير الصورة النمطية في أذهان الناس عن هذه المناسبة.
وأنتقل هنا إلى السؤال الثاني: هل إذا أخطأ الناس بشكل الاحتفال برأس السنة، يصبح كل شيء مرتبط بالمناسبة حراماً؟
إن هذه المحطة الزمنية في حياة الذين يعتمدون التقويم الميلادي في معاملاتهم اليومية ليست أمراً منكراً بحدّ ذاته، وإنما المنكر ما يقترف فيها من محرّمات.. فإذا انتفت هذه المحرمات، هل ثمة مشكلة شرعية بالموضوع؟ كأن أجتمع مع أسرتي وأقاربي في نهار أو ليل رأس السنة، وتكون "لمّة عيلة"، دون متابعة آفة "البصّارين والبصّارات" أو مشاهدة برامج هابطة على الفضائيات.. أين المشكلة في هذه "الجَمعة العائلية"؟
أذكر أن إحدى المحطات اللبنانية كانت تخصص سهرة مميزة في هذه ليلة رأس السنة ذات مغزى إنساني، حيث يجمع شمل أسرة مشتتة أو تقدم العون لأسرة فقيرة.. وكنا جميعاً نتابعه متأثرين.
وأسأل ثالثاً: ما دمنا انطلقنا من أن مناسبة "رأس السنة" باتت في العرف المجتمعي من العادات الاجتماعية وليس الدينية، فما المشكلة في أن يهنئ الناس بعضهم بهذه المناسبة؟ أليس هذا من "إفشاء السلام" وحسن التواصل الإنساني الذي أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل اشترط أن تكون المناسبة دينية لإظهار حسن الجوار؟ ما المانع في استثمار هذه المناسبة للتواصل مع من حولنا وتهنئتهم بالعام الجديد، طالما أنها لا تخالف الشرع. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم.. ولو دعيت به في الإسلام لأجبت"؟
ونأتي إلى النقطة الرابعة:
نعلم جميعاً أن التجار والمؤسسات التجارية يترصّدون المواسم – بمختلف أنواعها – لتحريك السوق والإعلان عن تنزيلات ومنتجات جديدة.. هذه فرصهم التي يعتمدون عليها لاسيما في الظروف الاقتصادية غير الطبيعية.
وبطبيعة الحال، هم يجتهدون في جذب الزبون بتلك المواسم، لجهة التزيين والتنافس في طرح الحسومات.. فهل ثمة مانع شرعيّ في أن يغتنم التاجر هذا الموسم الاستثنائي، فيزيّن مؤسسته ويعرض مفاجآته التجارية.. كما في بقية المناسبات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية (الأم – الاستقلال – المولد – المعلم...)؟
مع التأكيد طبعاً على أن لا يكون طابع الزينة ذات رموز دينية، بل هي زينة عادية.
لماذا نحرم التاجر من استثمار هذا الموسم ما دام لا يخالف شرعاً؟
أخيراً أقول: هي ليست دعوة لإقامة الاحتفالات والتزيين، لاسيما أنه غلبت عليها مظاهر غير شرعية، والأفضل تجنب الشبهات.. لكنها دعوة لعدم اختزال مناسبة "رأس السنة الميلادية" بالحديث عن المحرمات والموبقات.. ولعدم التعميم في إطلاق الأحكام الشرعية.
وكما تقوم الشركات بإجراء المراجعات في هذه المحطة الزمنية، فلنستثمرها في تقييم العام السابق على الصعيد الشخصي والتخطيط لعام قادم.. ولنغتنمها فرصة لإظهار حسن الجوار وتبادل التحايا والتهاني.
إن مآسينا كثيرة، ونحتاج مثل هذه المواسم لإفشاء السلام والمحبة بيننا، مع التأكيد على حفاظنا على هويتنا الإسلامية وتواصلنا الإنساني الراقي.
وأختم مكرراً ما بدأت به.. هو للنقاش وليس رداً على فتوى أو معارضة لها.
وكل عام وأنتم بخير