من بين أبرز خصائص الإسلام التي وضعها رب العزة سبحانه لدينه القويم، قضية المرونة والقدرة على التطور والتجديد الذاتي بتجدُّد الأزمان وتغيُّر الظروف والأماكن، ولئن كان للكثيرين ملاحظات على الحركة الإسلامية والدعوة في الوقت الراهن، في مجالاتها المختلفة، الدينية والأخلاقية والمجتمعية، وحتى السياسية؛ فإن الدين باعتباره من لدُن حكيم عليم، قادر على معالجة مثل هذه المشكلات.
هذا التجديد له آلياته التي احتواها الدين الحنيف، وعلى رأسها الاجتهاد، وجهود العلماء الأخرى ذات الصلة؛ حيث يقومون بإسقاط أحكام الشريعة على مستجدات الواقع.
وهذا أمر ثابت، ويقول الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فيه: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يُجدد لها دينها" [صحيح/ أخرجه أبو داود].
ولعله من بين أبرز المشكلات التي ظهرت إلى الوجود في المرحلة الراهنة على مستوى العمل الدعوي الحركي، انفضاض الكثير من شباب الدعوة والعمل الحركي، عن قضية خدمة الدعوة، بمشتملاتها المختلفة، بما في ذلك أنشطة البر والعمل الاجتماعي، وما ارتبط بذلك، مما كان من أهم الأدوات في تأليف قلوب الجماهير على الدعوة طيلة العقود السابقة.
ولقد ظهرت ثمار ذلك خلال ثورات الربيع العربي، عندما التفت الجماهير العريضة حول الطليعة الصحوية الإسلامية، ودعمتها في مواجهة الأنظمة الغاشمة، فأسقطت بعضها، كما في مصر وتونس وليبيا واليمن.
ووفق مختلف السُّنن التي وضعها رب العزة سبحانه وتعالى في خلقه، وعلى رأسها تبدل الأحوال وسُنَّة التدافع، {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [سُورة "البقرة"- من الآية 251]، و{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [سُورة "الحَج"- من الآية 40]؛ فإنه كان من المتوقع الارتكاسات التي جرت على خلفية هذا الحدث الجلل الكبير الذي عصف بالمنطقة والعالم بأكمله.
"يعود استنكاف الكثير من شباب الدعوة والحركة الإسلامية عن العمل الخدمي والجماهيري بشكل عام إلى مشاركة شرائح واسعة من الجماهير التي كانوا يخدمونها إلى الأنظمة القديمة في حربها ضد الإسلاميين"
يعود استنكاف الكثير من شباب الدعوة والحركة الإسلامية عن العمل الخدمي والجماهيري بشكل عام في هذه المرحلة، إلى مشاركة شرائح واسعة من الجماهير التي كانوا يخدمونها في السابق، إلى الدولة العميقة والأنظمة القديمة في حربها ضد الإسلاميين وضد الثورات بشكل عام.
ووجد المتابعون عبارة شهيرة تُتَداوَل على ألسنة البعض، من الشباب أو غيرهم داخل الدعوة، تدور حول معنى استحقاق الشعوب لمصائرها مع أنظمة الفساد والاستبداد التي تحارب ربما معركتها الأخيرة في الوقت الراهن، وأنه لا ينبغي خدمة أُناس تآمروا على الثورة والطليعة الثورية.
وهذا أمر بالمطلق خطأ فادح؛ ليس لأنه انتقص كثيرًا من الرصيد الجماهيري للدعوة والحركة الإسلامية فحسب؛ بل لأنه يخالف أيضًا القوانين التي وضعها الله عز وجل للدعوة بين البشر.
فخُلُق الدعوة القويم كما في القرآن الكريم، قولاً وفعلاً، وكما فعله أنبياء ورسل الله تبارك وتعالى، يتلخص في كلمات بسيطات العدد، عظيمات المعنى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [سُورة "هود"- من الآية 88]، و{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} كما في سورتَيْ "الأنعام"، في الآية 90، و"الشورى"، في الآية 23، أو كما في سُورة "هود": {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً ... (29)" و"يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا... (51)}.
فالأنبياء، وهم أفضل المصلحين والدعاة عبر التاريخ، وهم الأسوة لأنهم صنيعة ربهم تبارك وتعالى، ولأنهم تحركوا بموجب قوانينه؛ تبنوا إطارًا معينًا في دعوة قومهم، ويقوم هذا الإطار، من ضمن ما يقوم عليه من قواعد؛ على أساس الدعوة والتبليغ، وفق منهج حركي بعينه اختاره لهم الله عز وجل، أما الاستجابة والنتائج؛ فهي على الله عز وجل الذي شاءت حكمته أن تُسبَّبَ الأسباب.
وهناك حالة وحيدة في تاريخ الرسالات والبعثات السماوية، خرج فيها نبيٌّ غاضبًا على قومه بسبب كفرهم، وهو سيدنا يونُس "عليه السَّلامُ"، وكان جزاؤه في الدنيا التيه في بطن الحوت لولا أن اجتباه ربه بكلماتٍ قالها، فكان من الناجين.. {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [سُورة "الأنبياء"].
إذًا، فالأساس هو أن يقوم الداعية والمصلِح بما عليه فيما يخص دعوة الناس، بما يشتمل عليه ذلك من واجبات حركية، أيًّا كانت، أما الحديث عن عدم استحقاق الناس أو الجمهور للدعوة وما تقدمه لهم من ماديات ومعنويات؛ فهذا أمر خاطئ بالمطلق، وخطير أيضًا.
"الجماهير وقعت تحت طائلة حملة إعلامية مضادة، ربما هي الأكبر والأكثر تمويلاً وتقنية عبر التاريخ، لغسل أدمغتها من أجل الانفضاض من حول المشروع الإسلامي والتيارات الحركية التي تعمل عليه"
فهذا الأمر أولاً يتجاوز واقعًا مهمًّا، وهو أن الجماهير وقعت تحت طائلة حملة إعلامية مضادة، ربما هي الأكبر والأكثر تمويلاً وتقنية عبر التاريخ، لغسل أدمغتها من أجل الانفضاض من حول المشروع الإسلامي والتيارات الحركية التي تعمل عليه، ضمن الصراع على قلوب وعقول الجماهير بين الطرفَيْن.
كما أنه يتجاوز حقيقة مهمة، وهي أن الله عز وجل لم يرتضه لأنبيائه ورسله، بالرغم من أن الأمر يخصه عز وجل، ويخص قضية الخلق الأساسية، وهي قضية التوحيد، فإذا ما جاز ذلك في هذا الأمر الجلل الذي خُلِقَتْ لأجله السماوات والأرض؛ فإنه يجوز بالتالي على الأمور السياسية والمجتمعية.
ومكمن خطورة هذه الحالة، أنها تؤكد على رسالة سلبية يركز عليها الإعلام المضاد للمشروع الإسلامي والحركة الإسلامية، وهي "الانتهازية"، بمعنى أن إعلام الدولة العميقة يركز -ضمن ما يركز عليه من أباطيل لغسل عقول الناس- على جزئية أن ما يقوم به الإخوان المسلمون -على سبيل المثال- وسط الجماهير، من أنشطة بر وخلافه؛ كان لأجل خدمة أغراض سياسية، وليس ابتغاءً لوجه الله تعالى.
كما أنه يكرس حالة الانفضاض الحالية جزئيًّا من جانب الجمهور عن المشروع والدعوة، بل وعن فكرة التديُّن ذاتها!!
إن هذه المرحلة التي نحن والمشروع الإسلامي أحوَج ما نكون فيها للأسباب، وعلى رأسها دعم الجماهير؛ لتتطلب من القائمين على شأن الدعوة والحركة أن يعمدوا على تصحيح هذه الصورة عند فئة الشباب الأصغر سنًّا، باعتبار أنهم وقود الحركة الدعوية في كل الأزمان والأمكنة.