قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم (المائدة:15-16). وقال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلمه» (رواه البخاري).
لقد أمرنا ربنا أن نَذكر نعمَه علينا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم (المائدة:11). وإن من النِّعم العظمى علينا أنْ جعلنا من أبناء آدم وهي نعمة يجب أن تُذكر، لأن هذا المخلوق -أبانا آدم- كرّمه الله -سبحانه وتعالى- واستخلفه، إذ قال قبل أن يَخلقه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة (البقرة:30). إنه تعالى كرّم هذا الخليفة وكرّم أبناءه من بعده جميعًا حيث كونهم بني آدم: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (الإسراء:70)؛ إنها نعمة عظيمة ينبغي أن نتفكر فيها ونذكرها، لأن النعم إنْ لم تُذكر لن تُشكر، فأول الشكر للنِعم أن تُذكر. ونعمة «التكريم» نعمة عظيمة جدًّا، ونِعمة «الخلافة» عن الله نعمة عظيمة جدًّا، ولكن على قدر النِعم تكون المسؤولية. هل مَنّ الله علينا بهذه النعمة العظيمة فقط؟ ما أكثر نعم الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا (إبراهيم:34).
نعمة الإسلام:
من النِّعم التي فوق هذه النعمة هي نعمة الإسلام التي قال الله عنها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا (المائدة:3)، نعمة الإسلام إذن أعظم من النعمة السابقة. فكَم من أبناء آدم لا يتمتعون بنعمة الإسلام التي بها -لا بغيرها- يتم الفوز في الدنيا والآخرة.
إنها نعمة كبيرة ينبغي أن نُفكر فيها فلِـمَ اجتبانا الله واصطفانا من بين أبناء آدم ليَمُنّ علينا بهذه النعمة؟ ينبغي أن نفكر ونَذكر هذه النعمة ذكرًا يدفعنا إلى الشكر، ونتأمل في الفوائد الكثيرة لها، وحسبك أن النجاة بها في الدنيا، والفوز والنجاة الحقيقية بها في الآخرة، إذ لا فوز هناك إلا بالإسلام: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (مريم:71-72).
والمسلمون «مُتقون»، إذ لا يُتصور إسلام بغير تقوى، وهدايةُ الله في كتابه -الذي هو الهدى- لا تنفع غير المتقين، وهم وحدهم الذين يهتدون بهذا الكتاب: فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (البقرة:2)، كما أن قبول الأعمال إنما يكون من المتقين، ووراثة الجنة تكون بما عملنا هنا: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الأعراف:43)، والوارثون للجنة هم المتقون: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ (المؤمنون:10-11).
إذن نعمة الإسلام لا تُقدّر بثمن لفوائدها في الدنيا وفائدتها العظمى في الآخرة، إذ الحياة حياتان، حياة صغيرة بمثابة مقدمة لموضوع لا نهاية له اسمه «الآخرة» وهي الحياة: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون (العنكبوت:64). وبالتالي فإننا نتمتع بنعمة أخرى أعظم من هاته النعمة، حيث نشترك فيها مع العديد من الأمم مضت من المسلمين، لأن جميع الأمم السابقة هم مسلمون؛ جميع الأنبياء كانوا مسلمين، موسى مسلم، وعيسى مسلم، وأتباعهما مسلمون، ودينهم الإسلام لا غيره.
فمقولة الأديان السماوية، خرافة، لأن الدين واحد عند الله وهو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ (آل عمران:19)، إلا أنه نزل على مراحل حسب حاجات الإنسان وحسب حكمة الله سبحانه. وحين وصلت الأمة إلى مستوى من النضج، جاءها الكتاب الذي نَزل منه بعض الكتب من قبلُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ (النساء:44)، أما هذا فـألم، ذلك الكتاب هو الذي في الذِّكر الأصل، وهو كتابٌ مصدقٌ لما بين يديه من الكتاب ومهيمنٌ عليه. فهذا هو الكتاب، نَزل في صورته الخاتمة، في الصيغة الأخيرة لأبناء آدم نزولاً تامًّا كاملاً لا نقص فيه ولا عيب: لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ (فصلت:42).
نعمة الشهادة على الناس
إن كان الإسلام نعمة تشترك فيها الأمم الأخرى قبل أمة محمد، فما هي النعمة التي لا يشاركنا فيها غيرنا إذن؟ إنها نعمة «الشهادة على الناس». ما نَزل من الكتاب من قبلُ، استحفظ عليه الناس: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ (المائدة:44). أما هذا الكتاب -حيث لن يأتي بعدُ لا نبي ولا رسول- فحُفظ من الله -سبحانه وتعالى-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون (الحجر:9). فمن الذي يقوم بوظيفة الأنبياء التي تتلخص في تجديد أمر هذا الدين وتبليغ رسالة الله لمن لم تَبلُغه؟ تلك هي رسالة هذه الأمة، وهي النعمة الثالثة الكبرى التي تخص المسلمين من هذه الأمة (أمة محمد)، لأن رسالته تتشخص بـيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا (الأحزاب:45)، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا (النساء:41)؛ هذه الصفة الملخِّصة لوظيفته ورسالته هي نفسها لأتباعه من بعده في صورة أمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (البقرة:143)، هي نفس الصفة التي للرسل: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (البقرة:143).
هذه النعمة تتضمن ما سواها وتزيد، وفيها التشريف الكبير، ولكن -كما أشرت في البداية- ما من نعمة إلا وتَستَتبع مسؤولية؛ إذ هي أمانة تتطلب الأداء، فإن أُديت كان الجزاء العظيم، وإن لم تؤد كان الوزر الغليظ، فعلى قدر الأمانة يكون الأجر أو الوزر. وبما أن هذه الأمانة عظيمة جدًّا، فإن أجرها -إن حملناها بأمانة وأديناها بكفاءة- سيكون عظيمًا جدًّا.
ولكن إذا لم نَحملها بأمانة ولم نؤدها بكفاءة وجدارة، فإن وزرها لا يكاد يُتصور؛ مَن ضُربت عليه الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله سبحانه صارت لهم الولاية علينا. مَن يريد العزة فإن العزة لِله جميعًا. والعزة أصلاً لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكننا نعيش حياة الذُّل، حالة الذُّل على المستوى المحلي وعلى المستوى العالمي، لِم هذا كله؟ إن القصة تتلخص في شيء بسيط اسمه «هدى الله»، الذي قال الله فيه لأبينا آدم بعد أن أَهبطه من الجنة إلى الأرض: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (طه: 123-124)؛ لأن الهدى موجود وأعرض عنه، كما عبر في الآية: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا (الأعراف:175)؛ هي بمثابة جلدٍ يَلبسه فأزاله، والأصل في اللباس أن يقي ويستر، فحين انسلخ أتبعه الشيطان، لأن الأصل الأول حين أكل أبونا آدم وأُمّنا حواء من الشجرة، بدت لهما سوءاتهما.
فالمعصية تخرق الجُنة أيْ الرداء أو الدِرع الذي يمنعنا من الضلال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ (الأعراف:26). هذا الذي هو واقعٌ سببه واضح جلّي، إنه الانسلاخ من «هدى الله»، والإعراض عن «هدى الله»: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (طه:124).
هذا الذكر وهذا الكتاب يوم استضاء به أعراب الجزيرة العربية وبَدْوِها، فتحوا الكرة الأرضية شرقًا وغربًا جنوبًا وشمالاً. عقبة بن نافع أدخل حوافر فرسه في البحر وقال: «لو كنت أعلم أرضًا وراء هذا البحر لخضته بفرسي، فاتحًا لها ومُبلغًا نور الله لعباد الله». وفي نحو نصف قرن تقريبًا، امتد من المحيط الأطلسي مع ثلة من الأعراب والبدو -وليس مع جيش منظم أبدًا- لا عُدّة ولا عتاد ولا عدد، وإنما مخلوقات جديدة ولدت ولادة جديدة بنفخ روح القرآن فيها، لأن القرآن روح تُنفخ لا كلمات تُتلى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس (الأنعام:122)؛ فبدون القرآن نحن أموات غير أحياء، وبالقرآن نصير أحياء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال:24).
فحين نصير أحياء تنفع فينا النِّذارة: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا (يس:70). أما الذي ليس بحي فكأنما تَنفُخ في رماد بارد. الملايين التي تراها في العالم، موتى غير أحياء حتى يَحيوا بالقرآن، فالذي جعل الجيل الراشد الأول يفتح العالم ويحمل النور إلى أقاصي الكرة الأرضية؛ نرى البخاري ومسلم يجمعون سنة رسول الله من أقصى شمال الكرة الأرضية، ونرى طارق بن زياد يحمل النور إلى أوربا، وغيره يحملون النور إلى أقاصي السند والهند في شرق الكرة الأرضية.
ذلك كله إنما كان بهذا القرآن فقط، لكن ليس بالقرآن النصّي المعزول الموضوع على الرف بالنص المزين المزخرف، بل بالقرآن الذي يسكن عمق القلب، ويسري عبر العروق ليسكن الخلايا، لينفخ روحًا جديدة فيك، ليولدك ولادة جديدة إلى أن يجعلك خلقًا آخر: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ (المؤمنون:14).
إن القرآن روح بنص القرآن نفسه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (الشورى:52). القرآن، له نفس خاصيةِ الروح، والتعبير عنه بنفس التعبير الذي عبر به عن الروح التي نعرف جميعًا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (الإسراء:85)، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا. وخاصية الروح العادية التي نعرف، هي توحيد الكيان الصغير للفرد، جمع شتات أجزائه وإعطاؤهما القدرات التي تصير للكائن الحي: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح» (رواه البخاري)؛ إذ ذاك يصير كما صرحت الآية: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ.
تلك الروح التي نفخت في القسم الطيني من بني آدم صيّرته خلقًا آخر، والموت ليس فناء، وإنما فصل للعنصرين عن بعضهما، فيرجع العنصر الطيني إلى طينه (إلى الأرض)، وتذهب الروح إلى بارئها غير فانية حتى يعود اللقاء بعدُ. الذي رجع إلى الطين يتجزأ ويتفتت ليس له أي قدرة، كل القدرات اختفت منه بمجرد ذهاب عنصر الروح.
كذلكم -وأيم الله- جسد الأمة الإسلامية، إن روحها القرآن، إذا نفخ فيها صارت جسدًا ولم تبق عِضين ولا أباديد ولا شراذم وجزئيات ولا فتاتًا مفتتة كما هو الحال، بل صارت جسمًا واحدًا كما عبر عنه الحديث: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثَل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى» (رواه مسلم). هذه الخاصية هي للجسد، والتي هي مظهر للتراحم والتعاطف والتواد… إنما كانت في الجسد بسبب الروح، وإلا حين يموت الميت قلَّ لجسده أن يحدث فيه مثل هذا.
فالأمة الإسلامية يمكن أن تعود جسدًا بسرعة إذا نُفخت فيها الروح، وإنما تنفخ فيها الروح بنفخها في الجزئيات المكونة لها، أي الأفراد، ثم في الأسر، ثم في التكتلات البشرية المكونة للمجموع. إذن فالمدار على القرآن، به ارتفع من ارتفع، وبه اتضع من اتضع كما هو حالنا اليوم، وهو ما يؤكده الحديث: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين» (رواه مسلم). لننتبه إلى هذا الجار والمجرور «به»: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ لا بغيره. إذا التمسنا الهدى في غيره أضلنا الله وهو الحال الذي نعيش: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى (البقرة:120) بالحصر.
لا ينبغي ولا يجوز أن يلتفت المسلم فردًا أو أسرةً أو جماعةً أو دولةً أو أمةً لغير القرآن: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (الإسراء:9). أقوم على الإطلاق؛ إنما الهدى هدى الله. إن هذه الحقيقة يجب أن تستقر، لا صِدق لاستقرارها إلا بالإقبال الصادق على القرآن تعلمًا وتعليمًا. حين دعا إبراهيم وطلب قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (البقرة:129)، واستجاب الله فـبَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ (الجمعة:2).
لا مخرج اليوم مما نحن فيه من الذلة إلى العزة، من الجهل إلى العلم، من الضعف إلى القوة، من الظلمات إلى النور إلا بهذا القرآن. فلنُقبل عليه بصدق، نلتمس فيه الهدى لكل جزئية صغرت أم كبرت، تعلقت بالأرض أم بغير الأرض، يجب أن نجتهد في هذا حيث ما كنا، إن كنت معلّمًا فلأجتهد لأُعلِّم الهدى ما استطعت، إن كنت مفتشًا فلأجتهد أن أوجِّه الأساتذة والمعلمين هذا التوجيه، وإن طُلب مني أن أفعل غير الهدى فينبغي بأي حال ألا أفعل، وإن أُمرت أن أترك الهدى فينبغي ألا أتركه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى (العلق:9-14).
هذا الناهي للعبد الذي يصلي بالمقال أو بالحال، هذا الناهي للعبد الذي هو على الهدى، هذا العبد الناهي للعبد الآمر بالتقوى -أي بالهدى- ما الجواب الصريح في آخر السورة؟ كَلَّا لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (العلق:19)، إنما الطاعة، في المعروف. إذا أردنا أن نعرف المعبود الواقعي الحق… من نعبد؟ نزعم أننا نعبد الله، وندّعي أننا نشهد «أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، لكن الواقع لا يصدّق هذا، فهذه الدعوى ليس لدينا عليها بيّنة… إذن من نعبد حقيقة؟
هناك طريقة بسيطة جدًّا ليعرف كل واحد منا معبوده؛ إنه ببساطة، الذي يضحّي بكل شيء من أجل رضاه هو، ولا يضحّي به من أجل أي شيء آخر… إن كان المرأة أو الوظيفة أو المال، فذلك هو المعبود. وصدق رسول الله حين قال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة» (رواه البخاري). وليقسْ ما لم يقل كما قال ابن مالك: المعبود هو المحبوب الأكبر ليس باللفظ، ولكن تضحي في الواقع من أجله.
المحبة لها تعبير مادي كما قال الرسول: «الصلاة نور، والصدقة برهان» (رواه مسلم). فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، إذا لم يُصدّق العمل ما في القلب، فليس هذا ما جاء به محمد، وليس هذا معنى «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، إذ إن أول هدف لـ«لا إله إلا الله محمد رسول الله» أن تُوحِّد المسلم، أن توحد ابن آدم، أن توحده في قِسمَيه الاضطراري والاختياري، هو في القسم الاضطراري عبد لله شاء أم أبى، وفيه قسم اختياري يجب أن يوحّده مع القسم الاضطراري فيصير أيضًا مؤتمِرًا بأمر الله كالقسم الآخر.
وجهات ثلاث يجب أن تتوحد؛ جهة القلب، وجهة اللسان، وجهة الفعل، أن يكون لها إله واحد متعلق بالقلب رهبة ورغبة. «الله أكبر وحده»؛ هذه العبارة ينبغي أن نفكر فيها، ما معنى «الله أكبر»؟ ولماذا امتلأت بها الصلاة؟ لأننا في الواقع لا نجعل الله أكبر، بل نجعل أشياء أخرى أكبر. ولا يمكن أن نقوم بوظيفة الشهادة على الناس ما لم تمتلئ قلوبنا بأكبرية الله. ولذلك كان أول شرط في الإنذار والتبليغ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ بالحصر، ولم يقل الله «وكبّر ربك»، (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّر (المدثر:1-3)؛ لأنه إذا كان أي شيء في قلبك أكبر من الله فإنك ستؤتى منه، وإذا كان الله عندك أكبر من كل شيء وأنك مستعد للتضحية بكل شيء من أجل إرضائه، إذ ذاك يمكنك أن تفعل أي شيء أمَرك الله به وتَقدر عليه بيسر، وتدخل في قول رسول الله لمعاذ بن جبل حين سأله: أخبْرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه» (رواه الترمذي).
هذا التيسير هو بهذه العبودية الصادقة، ولهذا تشير الآية الكريمة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (التوبة:24).
إذن تتلخص القضية في الإقبال بصدق على القرآن الكريم في الصورة الفردية والجماعية، مَن شاء أن يتحدث فليكرع من القرآن، فليتضلع من القرآن، من شاء أن يفكر فلينطلق من القرآن، من شاء أن يُترجم فليزن بالقرآن… القرآن هو المنطلق، والقرآن هو الغاية، والقرآن هو الهدف، والقرآن هو الميزان، والقرآن هو الوسيلة، والقرآن كل شيء… لنَعُضّ عليه بالنواجذ ولنُعِد بناء الإنسان على أساس منهاجه الأول الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لرسوله، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ (آل عمران:73)، وقال كذلك: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (البقرة:135).