للأخلاق مصادر ثلاثة تنبع منها وتتغذى بها، ويكمل بعضها بعضا، وهي:
1- الفطرة:
فالإنسان مجبول ومفطور على حب الأخلاق الحسنة وكره الأخلاق السيئة. ومهما اختلف الناس -أفرادا أو أمما- في تقييم بعض الأفعال وبعض التصرفات، فإن هناك فضائل وأخلاقا يشتركون جميعا في حبها واحترامها، كالصدق والأمانة والوفاء والإحسان والتواضع والعدل..
وهناك رذائل وأخلاق سيئة يشترك الناس جميعا في كراهيتها واستهجانها، كالظلم والعدوان والكبر والكذب والخيانة والأثرة والغدر.. فاشتراك الناس -بمختلف أجناسهم وأديانهم وأوطانهم وعصورهم وطبقاتهم وأحوالهم- في هذه الميول الخلقية، وتجذُّرُها في نفوسهم وسلوكهم، دليل واضح على فطريتها وأصالتها فيهم.
فللإنسان حاسة خلقية تعمل مثل حواسه الأخرى. بل إن هذه الحاسة الخلقية تعتبر من الحواس المميزة للإنسان. ولذلك وُصف الإنسان بأنه كائن أخلاقي، أو حيوان أخلاقي. بل يمكن أن يقال: “إن الإنسان هو الكائن الأخلاقي الوحيد”، باعتبار “أن الإنسان لا يكون إنسانا مميزا من سائر الكائنات، بغير مَثل أعلى يَدين له بالولاء” [1].
2- الدين:
فمن المعلوم أن الأخلاق والتوجيهات الخلقية، هي الجزء الأعظم من جميع الأديان وتعاليمها. وفي جميع العصور وفي جميع الأمم، نجد الأخلاق قرينة الدين والتدين، ونجد الدين والتراث الديني، يشكلان -دائما- أكبر مدد وأقوى سند للقيم الخلقية، وللمعايير الخلقية، وللممارسات الخلقية. فدُعاة الأخلاق، وحُـماة الأخلاق، هم الأنبياء وأتباع الأنبياء.
وإذا كانت الجِبِلّة هي منبع الأخلاق المفطورة، فإن الدين هو مصدر الأخلاق المسطورة. فلا نعرف خُلقا حسنا يتمسك الناس به أو يذكرونه ويتطلعون إليه، إلا وهو منصوص عليه في الدين وفي التراث الديني.
3- العرف الاجتماعي:
في كل مجتمع، تتشكل عبر العصور أعراف وقيم، تكون محل تراض وتوافق عام، ومحلَّ احترام والتزام، وتصبح جزءا من المنظومة الأخلاقية للمجتمع، ويصبح انتهاكها والاستخفاف بها سلوكا معيبا وربما معاقبا عليه. كما أن التمسك بها يكون خُلُقا محمودا ومقدرا. وهذه الأخلاق العُرفية والعادات الكريمة، يكون لها -في الأساس- استمدادٌ من المصدرين السابقين وتأثر بهما، ولكنها تستمد صِـيَغَها العملية وتعبيراتها الظرفية، من الفكر والثقافة والتجربة البشرية. فهي -من هذه الناحية- تجسد الخصوصية الأخلاقية للأمم والشعوب، وللعهود والأحقاب التاريخية. ولذلك نجدها أكثر قابلية للاختلاف والتمايز بين الأمم، وأكثر خضوعا للتغير عبر العصور، ولو بتدرج بطيء في الغالب.
ويُرجِع الماوردي تشَكُّل الأخلاق وانبثاقها إلى أصلين هما الطبع والتطبع؛ فالأخلاق “بعضها خُلق مطبوع، وبعضها خلق مصنوع؛ لأن الخلق طبع وغريزة، والتخلق تطبع وتكلف.. فتصير الأخلاق نوعين: غريزية طُبع عليها، ومكتسبة تَطَبَّع بها” [2].
على أن الأخلاق بنوعيها لا تستغني عن المعالجة والرعاية والصيانة. “قال بعض الحكماء: ليس شيء عولج إلا نفع وإن كان ضارا، ولا شيء أهمل إلا ضر وإن كان نافعا” [3].
مكانة الأخلاق في الإسلام
المكانة العظمى للأخلاق في الإسلام، تعد من أظهر معالمه وأبرز خصائصه.
فهي -أولا- مكانة أساسية، بمعنى أن الأخلاق هي من جملة الأسس الأولى التي بني عليها الإسلام وشريعته.
وهي -ثانيا- تحتل مساحة شاسعة مِن مَصْدرَي الإسلام: القرآن والسنة. فحين نصنِّـفُ الآيات والأحاديث حسب موضوعاتها، سنجد للموضوعات الأخلاقية نصيبا وافرا، إن لم يكن النصيب الأوفر.
وهي -ثالثا- ذات حضور وتأثير بليغين في كافة الجوانب الأخرى من الدين عقيدة وشريعة. فحتى الآيات والأحاديث المتعلقة بالعقائد أو بالأحكام أو بالقصص، نجدها مشبعة بالمعاني والتوجيهات الخلقية.
فعلى سبيل المثال: حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا [4]…»، نجد فيه مزجا واضحا بين الإيمان وحسن الخلق، بحيث جعل حسن الخلق جزءا من الإيمان ومن كمال الإيمان.
وفي هذا المعنى نقل البيهقي عن أبي عبد الله الحليمي -رحمه الله تعالى- قوله: «فدل هذا القول على أن حسن الخلق إيمان، وأن عدمه نقصانُ إيمان، وأن المؤمنين متفاوتون في إيمانهم، فبعضهم أكمل إيمانا من بعض» [5].
وفي تفسير قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم- 4]، يرى عامة المفسرين أن هذا الخلق العظيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجمل ما في الإسلام ومجمل ما في القرآن الكريم، فكأنّ مجملَ الإسلام والقرآن، إنما هو (خلق عظيم). وهذا ما أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها، عندما جاءها بعض الصحابة يسألون عن مضمون الخلق النبوي العظيم المنوه به في الآية، فقالت: كان خُلُقه القرآن [6].
وقال الإمام الطبري: ”القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم - 4]، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل..“[7]. وقال ابن عاشور: “فلا جرم عَلِمنا أن الإسلام هو مكارم الأخلاق، وجماع مكارم الأخلاق يعود إلى التقوى[8].
ومن هنا قال بعض العلماء: “الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين“[9]. فمعيار المفاضلة في الدين والتدين هو حسن الخلق، فمن كان أحسن خلقا فهو أقوم دينا وأرقى تدينا، والعكس بالعكس.
روى البيهقي بسنده.. عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن رجلا من بني سلمة كان يحدثه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُسن الخلق»، ثم راجعه الرجل، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حسن الخلق» حتى بلغ خمس مرات[10].
وهذا المعنى قد تواتر في الأحاديث النبوية الشريفة، من مثل:
- "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" [11].
- "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة" [12].
- "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوما القيامة أحاسنَكم أخلاقا" [13].
ومن أجود ما قيل في تفسير حسن الخلق، ما نقله البيهقي في الباب السابع والخمسين من (شعب الإيمان)، عن الإمام أحمد أنه قال: «ومعنى حسن الخلق: سلامة النفس نحو الأرفق الأحمد من الأفعال، وقد يكون ذلك في ذات الله تعالى، وقد يكون فيما بين الناس. وهو في ذات الله عز وجل: أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامر الله ونواهيه، يفعل ما فرض عليه طيب النفس به، سلسا نحوه، وينتهي عما حرم عليه، واسعا به، غير متضجر منه، ويرغب في نوافل الخير، ويترك كثيرا من المباح لوجه الله تعالى، إذا رأى أن تركه أقرب إلى العبودية من فعله، متبشرا لذلك غير ضجِر منه، ولا متعسر به.
وهو في المعاملات بين الناس: أن يكون سمحا بحقوقه لا يطالب غيره بها، ويوفي ما يجب لغيره عليه منها، فإن مرض فلم يُعَدْ، أو قَدِم من سفر فلم يُزَر، أو سَلّم فلم يُردّ عليه، أو ضاف فلم يكْرَم [14]، أو شَفع فلم يـُجـَب، أو أحسن فلم يُشكَر، أو دخل على قوم فلم يُمَكّن، أو تكلم فلم ينصَت له، أو استأذن على صديق فلم يؤذن له، أو خطب فلم يزوّج، أو استمهل الدين فلم يمهَل، أو استنقص منه فلم يُنقَص، وما أشبه ذلك، لم يغضب، ولم يعاقب، ولم يتنكر من حاله حال، ولم يستشعر في نفسه أنه قد جُفي وأُوحِش، وأنه لا يقابِل كل ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله، بل يضمر أنه لا يعتد بشيء من ذلك، ويقابل كُلّاً منه بما هو أحسن وأفضل وأقرب إلى البر والتقوى، وأشبه بما يحمد ويرضى.
ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه، كَهُوَ في حفظ ما يكون له، فإذا مرض أخوه المسلم عاده، وإن جاءه في شفاعة شفّعه، وإن استمهله في قضاء دين أمهله، وإن احتاج منه إلى معونة أعانه، وإن استسمحه في بيع سمح له، ولا ينظر إلى أن الذي يعامله كيف كانت معاملته إياه فيما خلا، أو كيف يعامل الناس، إنما يتخذ الأحسن إماما لنفسه، فينحو نحوه ولا يخالفه.
والخلق الحسن قد يكون غريزة، وقد يكون مكتسبا، وإنما يصح اكتسابه ممن كان في غريزته أصل منه، فهو يضم بما اكتسبه إليه ما يتممه. ومعلوم في العادات أن ذا الرأي بمجالسته أُولي الأحلامِ والنُّهَى يزداد رأيا، وأن العالم يزداد بمخالطة العلماء علما، وكذلك الصالح والعاقل بمجالسة الصلحاء والعقلاء، فلا ينكَر أن يكون ذو الخلق الجميل يزداد حُسنَ خلقٍ بمجالسة أولي الأخلاق الحسنة، وبالله التوفيق» [15].
-------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها لتوفيق الطويل ص 17، و521.
[2] تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك لأبي الحسن الماوردي ص4، نشر دار النهضة العربية ببيروت- 1981، تحقيق محي هلال السرحان وحسن الساعاتي.
[3] تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك لأبي الحسن الماوردي ص4.
[4] رواه أحمد 40|242 (24204)، 41|213 (24678)، والترمذي 5|9 (2612)، والنسائي في الكبرى 8| 256 (9109)، والدارمي 2|231 (2795) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الترمذي: صحيح.
[5] شعب الإيمان للبيهقي 1|61.
[6] رواه مسلم 1|512 (746) ؛ وأبو داود 2|40 (1342) ؛ والنسائي 3|199 (1601) بلفظ: ”إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن” ؛ ورواه باللفظ المذكور أحمد في مواضع منها 41| 148 (24601)، 42|183 (25302 )، والبخاري في الأدب المفرد ص115 (308)، كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] جامع البيان للطبري 23|528.
[8] أصول النظام الاجتماعي في الإسلام لابن عاشور ص207، دار النفائس بالأردن – 1421|2001.
[9] بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 2|568.
[10] رواه البيهقي في شعب الإيمان 6|242 (8016) عنه به.
[11] رواه أبو داود 5| 275 – 276 (4766) ؛ والترمذي 4| 362 – 363 (2002)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
[12] رواه الترمذي 4| 363 (2003) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال: غريب من هذا الوجه.
[13] رواه الترمذي 4| 370 (2018) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال: حسن غريب.
[14] أي نزل ضيفا على أحد فلم يكرمه كما ينبغي.
[15] شعب الإيمان للبيهقي 6|230.