لعل ما يضفي على حياة السائرين إلى الله جمالاً يسمو بمعانيها، وجلالاً يرتقي بدلالاتها، وثقة ربما وضعتها على ضفاف الكمال، أن العبد السائر إلى الله يراوح بين مقامين جليلين عظيمين، كل مقام منهما يمثل عبادة عظيمة، ودرجة رفيعة، لا يفتأ العبد السائر يحط رحاله مرة هنا، ومرة هناك، وهما مقامان يحتلان مرتبة في السمو واحدة، فهو لا ينزل من مرتبة إلى مرتبة، بل ينتقل من مرتبة إلى مرتبة، إنهما مقاما عبادة الصبر وعبادة الشكر.
عبادة الصبر تصقل النفس وتروضها، وعبادة الشكر تهذب الروح وتسجدها في محراب الإيمان الخالص.. كم تبدو حياة السائرين يباباً لا زرع فيها، وجدباً لا ماء فيها، وظلمة لا نور يشع في نواحيها. حين يتضاءل مقام من هذين المقامين العظيمين في حياة السائرين إلى الله، نعم، حين لا يأخذ كلا المقامين نصيبهما، ويحتلان المساحة اللازمة لهما، في حياة السائرين، فإن موازين السير تختل، كما أن الإيمان سيعتوره نقص واهتزاز.
غياب الصبر يعني الضجر وربما الخروج عن مقتضيات أدب السائرين، في حظرة رب العالمين، كما أن غياب الشكر يضعك على حافة فقدان النعم، لأنها تدوم بالشكر، وتزول بزواله.
بين الصبر الذي يشكل قاعدة صلبة من قواعد النجاة، وبين الشكر الذي يشكل ذروة في عبودية خالصة- لا ترى نفسك في نعمة أنعم بها المولى- سبحانه وتعالى- عليك، فترى الشاكر ساجد اللسان والجبين في محراب العبودية، بين الصبر والشكر تستشعر لذة المسير إليه، وحلاوة الطاعة بين يديه، وتأنس في القرب منه، وتشتاق لمناجاته ومجالسته.
نعم إنهما مقامان يجعلان من حياتك حياة، ومن مسيرك جنة، ألم تقف على خبر الأول الذي أخبرنا عن حاله في مسيره، حين جلس مع أصحابه على ضفاف نهر دجلة، وقد اغترفوا منه بعض مائه، وغمسوا فيها كسيرات من خبز بين أيديهم أكلوها.. فقال بعدها: لو يعلم الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
سعادة تملأ النفس، وطمأنينة تملأ القلب، وهناءة تملأ العين. لا تشترى بأموال أو بملك، ولا بجاه أو سلطان.. لا سبيل إلى سعادة النفس وطمأنينة القلب إلا بالتقلب بين هذين المقامين الجليلين، مقام الصبر وهو شطر الإيمان، ومقام الشكر.
ما أريد تأكيده أن الحالة التي يعيشها كثير من الناس في أيامنا هذه، من شدة وضيق وضنك، إنما هي ثمار مرة لخلو مقام الصبر ومقام الشكر من الماكثين بهما، أو حتى الزائرين لهما، فلن تستقيم لنا حياة، حتى تعود الحياة لهذين المقامين العظيمين. فعن أي صلاة مقبولة نتحدث وقد غاب عن الصبر بكل معانيه ودلالته، والشكر بكل أحواله، وكذا الأمر مع الصيام والحج والزكاة وغيرها من الأركان والطاعات والعبادات.
صيامنا بدون الصبر مصيبة عظيمة، تتحول من مدرسة للطاعة والعبادة وسمو الإيمان، إلى حلبة صراع وحدة وغضب، فيا للهول إن كان الطعام ينقصه ملح، أو أن أحدهم أزعج قيلولته.
باختصار غير مخل لا معنى لكل عباداتك إن أديتها وأنت خارج مقام الصبر، ولا معنى لمسيرك كله إن سرته غير متفيئ ظلال مقام الشكر.
إن الصبر من جهة، والشكر من جهة أخرى، يشكلان حصانة حقيقية لحفظ مسير السائرين، وصيانة إيمانهم، لأن العبد السائر لا يخلو في حياته وفي كل أحواله من أحد أمرين، إما نعمة تستوجب شكراً، أو ابتلاء يستوجب صبراً. لن تكون خارج هذين الإطارين أبداً. وهذه هي طبيعة الحياة التي أخرجنا إليها، لا بل هبطنا إليها، فإما أن تحمل لك نعمة تسرك، في ظاهرها، أو تسوق لك مصيبة تضرك، في ظاهرها.
وقصدت في ظاهرها مع النعمة والمصيبة، أن أصل الشقاء والسعادة في هذه الحياة ليس مبعثه النعم التي نراها، ولا المصائب التي تمر بها، بل الأمر فيها أنهما سر من أسرار الخلق والروح التي جهلنا أمرها. فأثبتت الحياة التي نعرف أنه ليس كل صاحب نعمة سعيداً، وليس كل صاحب مصيبة شقياً.. بل الأمر جاء على غير ما تحمله لنا أوهامنا وأنفسنا الضعيفة، فنظن خطأ أن صاحب النعمة سعيد، فإذا ما اطلع على بعض أسراره، حمدنا الله على أحوالنا.
ولما كان الشكر مقاماً يتجاوز حد اللسان في أقواله وترديداته الظاهرية، التي اعتاد الناس على تكرارها، إلى ما هو أكبر من ذلك كله وأعظم، ليشمل كل شيء في حياتك، كانت الحقيقة المرعبة التي أخبرنا عنها المولى- سبحانه وتعالى- "وقليل من عبادي الشكور".
وحتى تكون من هذا القليل عليك أن تنتبه جيداً، بل ربما عليك أن تمسك لسانك أحياناً إلى حين، كرياضة تحد فيها من سيطرته، وتفسح المجال لغيره، فتطلق العنان لقلبك، وليديك ولرجليك ولعينيك وأنفك وكل أعضائك كي تسجد شكراً لله سبحانه وتعالى. ذكراً ووصلاً وعطاءً وإحساناً وأمراً ونهياً وصفحاً وحلماً. فترى في طي النعمة المنعم نفسه- جل جلاله- فتأخذك النعمة من ظلالها الزائلة إلى ظلاله الخالدة. يا الله.. كم تبدو النعمة عظيمة وهي تدلك على عظمة المنعم. فإذا كانت الهدية ليست بقيمتها إنما بمنزلة مهديها، فكيف نرى النعم التي أنعم بها المولى علينا، ونحن لا نحصى لها عداً؟!
وحين ينزل بك البلاء، فتراه رسالة تحذيرية من رب يحبك، حتى يصحح خللاً في مسيرك، أو يقوم اعوجاجاً ألم فيك، أو حين تراه اختباراً في دار هي دار امتحان واختبار، يسوقك هذا الفهم الجميل الرائع للضراء التي أصابتك، لأن تنظر في أمرك، وتسجد في محرابك، وتسأله العفو والصفح.
وهكذا نجد أن الخير كله مكنون في طيات ما يمر بنا من أحوال السراء التي تقتضي شكراً، أو الضراء التي تستوجب صبراً، وحين تعلم أن لا نعمة بلا شكر، وأن لا مصيبة مع الصبر. ستنطلق في مسيرك إليه سبحانه صابراً شاكراً.