ويؤثرون على أنفسهم.. مشاهد من الواقع

الرئيسية » خواطر تربوية » ويؤثرون على أنفسهم.. مشاهد من الواقع
مشاهد من الواقع11

في خضمّ هذه الظروف الجوية التي تشهدها البلاد، وفي الوقت الذي يأوي الناس في بيوتهم خشية البرد واتقاء أي عارض قد يصادفهم، نذر البعض أنفسهم لخدمة الناس وعونهم سواءً على صعيد العمل الرسمي أو التطوعي، فكلاهما تصدرا لعون الناس وإغاثتهم على حساب أنفسهم وأمانهم ودفئهم.

مشاهد تجعلك تدرك أن القلوب الطيبة والنفوس المعطاءة لا تزال على قيد الحياة في الوقت الذي نشهد فيه موت الإنسان وسط برود وصمت الإنسانية أجمع.
إننا لنغبط هؤلاء الفتية الذين تصدروا لخدمة الناس وعونهم وإغاثتهم، كيف لا والله جل جلاله تكفل بعونهم وإغاثتهم جزاءً ﻹحسانهم، وهل جزاء اﻹحسان إلا اﻹحسان؟!

ففي الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (رواه البخاري). فأي عون للعباد أفضل من إغاثة ملهوفهم أو تفريج كربة أحدهم، مريضٌ يحتاج لإسعاف طارئ، عاجزٌ لا يجد ما يؤويه أو يدفئه أو يسد جوعه ورمقه، عالقٌ بسب إغلاق الطرق، كبير أقعده الكبر في السن عن حاجة أهله، والأمثلة كثيرة.

وأي جزاءٍ أفضل من أن يكون الله في عون العبد؟! ألا هنيئا لكم هذا الجزاء!

إلا أن أجمل هؤلاء الفتية وكلهم جميل، أولئك الذين تواروا خلف الأضواء ووراء الكواليس، الذين لم نشاهدهم ولم نسمع عنهم، لكن أسماءهم تُليت هناك، في ملأ خيرٍ منّا في الملأ اﻷعلى.

أولئك الذين يصدق فيهم قول الحق عز وجل {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا} [الإنسان:9]، أولئك الذين يشبهون هطول الثلج في هدوئه، هطل بصمت وبلا امتنان على اﻷرض فأحياها وغمر قلوب العباد فرحةً وسعادة.

لله درهم حينما آثروا أنفسهم بالبرد والتعب وعرّضوا أنفسهم للمخاطر ليمدوا أيديهم الدافئة لكل من اصطكت عظامه برداً أو جوعاً أو خوفاً، فصدق فيهم قول الله عز وجل {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر:9]، فأيّهم لم يتعب وأيّهم لم يشعر بالبرد أو الجوع أو الخوف لكنهم آثروا الغير بكل خير، فما أعظمه من موقف وعند الله لا تضيع المواقف.

"من نشأ على حب الخير والعطاء وعون الناس وإيثار الغير ومن تربى على هذا الغرس منذ الصغر لا شك بأن يكون هذا ديدنه وخلقه في شبابه وفتوّته"

ما أرقى هذه اﻷخلاق التي لم تأتِ من عبثٍ وإنما كانت نتاج زرعٍ عقائدي تربوي إسلامي، فمن نشأ على حب الخير والعطاء وعون الناس وإيثار الغير ومن تربى على هذا الغرس منذ الصغر لا شك بأن يكون هذا ديدنه وخلقه في شبابه وفتوّته، ثمّ ما أجملها من أخلاق اذا ما سادت طبيعة حياتنا ولم تكن لحاجة أو طارئ مستجد، فالأصل في المؤمن أن يكون عضُدَ أخيه المؤمن، والله تعالى يقول {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71].

و(الانسان اجتماعيّ بطبعه) كما يقول ابن خلدون في مقدمته، فهو لا يحيا بمعزلٍ عن الآخرين مهما توفرت له سبل الحياة، وتذكروا دائما أنّ الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، فهذه وحدها والله تكفي.

العمل التطوعي والتعبئة التربوية

بلا شك أن ما ورد سابقاً يعتبر مثالاً على العمل التطوعي الذي ثبتت مشروعيته  في الكتاب والسنة، ففي الكتاب يقول الحق عز وجل: {فمن تطوع خيراً فهو خير له} [البقرة:184]، وفي السنة النبوية ما روى عن أبى موسى الأشعرى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "على كل مسلم صدقة" قيل أرأيت إن لم يجد؟ قال: "يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق" قـال: قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف" قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: "يأمر بالمعروف أو الخير" قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: "يمسك عن الشر فإنها صدقة" (رواه مسلم).

"لابد من تعبئة تربوية إيمانية منذ الصغر على حب البذل والعطاء بطيب نفس ورجاء الأجر من الله وحده"

واعتبر الفقهاء العمل التطوعي أو "التطوع" من عقود التبرعات التى تفيد تمليك العين بلا عوض، حيث تقديم العون والمساعدة بلا مقابل مادي أو معنوي.

ولما كانت النفس البشرية تميل بفطرتها الى حب المدح والشكر والثناء على ما تقدمه وتبذله، ولما ابتُليت مجتمعاتنا بـ "ظواهر مرضية" مثل "خطف الأضواء" و"سرقة الإنجازات" من بعض ضعاف النفوس الذين همهم الشهرة والمدح والثناء، وخوفاً من تأثر النفس بمثل هذه النماذج المعينة للشيطان والنفس الأمارة بالسوء كان لابد من تعبئة تربوية إيمانية منذ الصغر على حب البذل والعطاء بطيب نفس ورجاء الأجر من الله وحده.

إنّ النماذج المعطاءة المحسنة التي تزخر بها مجتمعاتنا من شباب ملتزم لا يبغي إلا وجه الله في بذله وعطاءه، لهي زرع آتى أكله بعدما أينع ونضج وحان حصاده، وهي ثمرة جهد الدعاة الزارعين منذ الصغر كلٌ في مجال عمله ونطاق مسؤولياته، تنشئة الأم الفاضلة، ودروس الشيخ في المسجد، ودروس المعلمة المربية، والقدوة الحسنة في المجتمع الى غير ذلك من المجالات.
وعليه فإن التعبئة التربوية حول أهمية وفضل العمل التطوعي لهي مسؤولية عظمى تقع على عاتق الدعاة المربيين، وذلك بالفعل قبل القول ليكونوا بذلك قدوة حسنة ومثالا يحتذى به من قبل هذا النشئ الاسلامي الصاعد.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة في موقع "بصائر" اﻹلكتروني في الشؤون التربوية واﻷسرية ، وصحفية وكاتبة في صحيفة "السبيل" اليومية في الشأن السياسي والشبابي .

شاهد أيضاً

بين صناعة المفكر ونثر الأفكار

"الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده" على بداهة هذه القاعدة وكثرة تردادها، لا …