خلجات جدّ

الرئيسية » حصاد الفكر » خلجات جدّ
img201410311828254562

تمضي الحياة بي.. أرمق أولئك الذين يلهثون فيها خلف ألقاب وأوسمة، أشفق على بعضهم وأعرض عن البعض الآخر، وفي نفسي برد اليقين بترك الساحة والميدان لهم، والراحة بعدم منافستهم في مضمار ساخن جداً لا طائل من ورائه إلا متاع زائل، وعيش في وهم كبير يتلبس على كثير من المثقلين بالألقاب، وغشاوة تحيط بهم وبمن يهيمون بهم، وبمن يبطنون قولة "يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم".

في لحظة يهبك الواهب لقباً لا تملك إلا أن تخر ساجداً شكراً لله عليه. إنه لقب يعرفك بعظيم نعم الله عليك بما أمده لك من ساعات وأيام وأعوام لتشهد ميلاد أول أحفادك، فتحظى عندها بلقب "جد" بعد أن أمضيت دهراً تتقلب في نعمة الله العظيمة أنك أب دون أن تؤدي حق شكرها لله المنعم المتفضل، وحسبك سماع نداء يا أبي و"بابا" وغيرك يشتهيه ولو بملء الأرض ذهباً.

في لحظة يأتيك البشير عن بعدٍ بـ"سعدي" فيخفق الفؤاد فرحاً وطرباً بمقدمه، ذلك الحفيد الذي شهد عدواناً غاشماً تجاوز الخمسين يوماً لاحقت فيه الآلة الهمجية الصهيونية أطفال غزة على شاطئ البحر وهم يلعبون يوم عيدهم وفي مدارسهم وبين أحضان أمهاتهم. أخاله أمضى تلك الأيام وهو متترس بالأغشية المحيطة به منصت لأصوات المدفعية وقنابل الطائرات وصواريخ البوارج الحربية وهي تدك أحياء غزة على الآمنين المطمئنين لتحيل الشجاعية أطلالاً هامدة وقد كانت مرتعاً لطفولة والده وجده..

أخاله كان يتحرك طرباً لسماع صواريخ العز القسامية المنطلقة من حوله ناشرة الرعب والهلع في الغزاة المحتلين وملجئة الملايين منهم كالجرذان المرتعدة لبطن الأرض. وكأني به يصيخ سمعه ترقباً لعملية إنزال من خلف خطوط العدو، واشتباك يجهز فيه المقاومون على جنود العدو وآلياته من مسافة صفر، كأني به يتابع بشغف ولهفة قائده الملثم بالكوفية أبي عبيدة يكشف أكاذيب النتن ياهو وفضحه على رؤوس الأشهاد.

هناك في مستشفى الشفاء بغزة أطلق صرخاته الأولى تدوي في جنباتٍ علت فيها صرخات الثكالى على الأشلاء المقطعة والأجساد المحترقة بلهيب الأسلحة المحرمة دولياً، وكأني به يوجهها للعدو المحتل من المكان "الشاهد" على دمويته وساديته وسعيه لنشر الموت بأننا نواجهك بإرادة الحياة والتجذر أجداداً وآباءً وأحفاداً في أرضنا الطاهرة المباركة.

فتح "سعدي" عينيه في قلب حصار جائر ظالم قل نظيره في التاريخ، في زمن قست القلوب فيه، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، حصار حرمه وحرمنا من أول لقاء وأغلى عناق، وهل أغلى من الولد إلا ولد الولد؟ ألم يتحرك قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم شفقة وحناناً لرؤية حفيديه الحسن والحسين رضي الله عنهما يمشيان ويعثران فينزله ذلك عن منبره نجدة لهما.

ما يزال ذلك المشهد الرائع محفوظاً بجماله وبهائه وفيوض رحماته من نبي الرحمة والمرحمة صلى الله عليه وسلم يرويه الصحابي بريدة بن الحصيب الأسلمي وقد تكحلت عينيه بذلك النور الوضاء بقوله: (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يخطبُنا إذ جاءَ الحسنُ والحُسَيْنُ عليهما قميصانِ أحمرانِ يمشيانِ ويعثُرانِ، فنزلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ منَ المنبرِ فحملَهُما ووضعَهُما بينَ يديهِ، ثمَّ قالَ: صدقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ نظرتُ إلى هذينِ الصَّبيَّينِ يمشيانِ ويعثُرانِ فلم أصبِر حتَّى قطعتُ حديثي ورفعتُهُما).

صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 3774 خلاصة حكم المحدث الألباني: صحيح

أطل "سعدي" في الحادي والعشرين من شهر شباط (فبراير) لنقرأ في ذلك رسالة بليغة من رسائل الحياة، فقد كان يوم زواجي في العشرين من شباط (فبراير)، وما هو إلا يوم واحد -أو هكذا شبه لي- ثم أصبحت جداً، وهكذا هي الحياة بوقتها الذي لا ينتظر!! ولا عزاء لأهلها إلا أن يسلموها راية عزيزة خفاقة عالية لأبنائهم وأحفادهم سائرين على خطى القائد والمعلم والحبيب صلى الله عليه وسلم إلى أن يلتقي شمل الأحباب آباء وأمهات وأجداد، أبناء وبنات وأحفاد، عند حوضه وكوثره المرتاد، طلباً للسقيا والري من يد خير العباد.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • الحياة
  • العمر
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

    شاهد أيضاً

    بين معالي الأمور وبين منظومات التفاهة

    قدَّمت غزة منذ أيام نموذجاً متميزاً في تخريج 1,471 حافظاً للقرآن في يوم واحد، تتراوح …