عندما يلفحنا هجير الحياة، وتجف ينابيع الرحمة والود بين البشر، ويطغى الظلم على مشاهد الرأفة والعدل، وعندما تعصف بالشباب المسلم الأفكار، ويتيه البعض في حيرته إزاء ما يواجهه من مكر وتضليل تنوء به الجبال. عندما يشتد قصف المغرضين الحاقدين في الإعلام وفي الميدان ويشعلون من حولنا النيران.
عندها لا خيار أمامنا إلا الفرار من كل ذلك والتقاط الأنفاس تحت الظلال الوارفة لحديقة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ففيها دواء كل عليل وشفاء كل سقيم وري كل ظمآن، وسكينة كل مضطرب، وراحة كل متعب وهداية كل ضال.
يروي لنا الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنه حديثاً لكأنه تشربه حتى ملك عليه روحه وحياته، فقد أثنى عليه جابر رضي الله عنه بقوله: ما منا أحد أدرك الدنيا إلا وقد مالت به إلا ابن عمر. وأثنت عليه أمّنا الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها فقالت: ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن عنه: مات ابن عمر وهو في الفضل مثل أبيه (رضي الله عنهما). وقال عنه طاوس رضي الله عنه: ما رأيت أورع من ابن عمر.
ولا عجب فقد تفيأ الظلال المباركة بصحبته للحبيب صلى الله عليه وسلم، ونهل من ذلك المعين العذب حتى ارتوى منه وتضلع.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كُنتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فجاءَهُ رجلٌ منَ الأنصارِ، فَسلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، ثمَّ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: أَحسنُهُم خُلقًا، قالَ: فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ؟ قالَ: أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعدادًا، أولئِكَ الأَكْياسُ).
المحدث: الألباني- المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 3454، خلاصة حكم المحدث: حسن
أما حسن الخلق فلا تسل عن حسن خلقه رضي الله عنه، فعن أبي جعفر الرازي عن حصين، قال ابن عمر: إني لأخرج وما لي حاجة إلا أن أسلم على الناس، ويسلمون علي. وعن أبي عمرو الندبي قال: خرجت مع ابن عمر، فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلا سلم عليه.
إنه المتواضع الذي قال له رجل: يا خير الناس، أو: ابن خير الناس. فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله، وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه.
وأما الكياسة فتأملها بين ثنايا كتابه الذي ذكره الليث بن سعد وغيره أن رجلاً كتب إلى ابن عمر أن اكتب إلي بالعلم كله. فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم، فافعل.
إنه الكيّس الذي روى عنه القاسم بن أبي بزة: أنه قرأ من سورة المطففين فبلغ (يوم يقوم الناس لرب العالمين) فبكى حتى خرّ، وامتنع من قراءة ما بعدها.
إنه ابن أمير المؤمنين فما حال أبناء الأمراء والملوك اليوم؟ من يتعظ بكلام من لا ينطق عن الهوى ويستعد للموت بدل أن يزرعه في كل شارع ويدخله كل بيت ببغيه وظلمه وحقده وإجرامه.
أين الأكياس من العلماء الذين يزهدون بما في أيدي الحكام والدول، ويصدعون بقول الحق ولو كان مراً؟ أين هم ليتصدوا دون خوف أو وجل للدواعش وأمثالهم وكل ما تنتجه مختبرات مخابرات الأعداء من أفكار دخيلة على الإسلام؟
أين الأكياس من الساسة والإعلاميين الذين لا يقعون في شهادة الزور لصالح زعيم فاجر أو انقلابي غادر؟
أين هم الأكياس الذين تفجعهم مشاهد الدماء التي تسيل فيتحركوا في الأمة ويتقدموا الصفوف للأخذ على الظلمة المجرمين الطغاة دفاعاً عن المستضعفين من المسلمين دون أن يضعوا أي اعتبار لسايكس بيكو وتقسيماتها؟
أين هم الأكياس الذين يؤرقهم سؤال ربهم عن مسرى نبيهم وقد دنسه أشد الناس عداوة للمؤمنين وبلغ سعارهم أوجه للبدء في الفصل الأخير من دراما هدمه وتهويده على مسمع ومرأى من الأمة الغافية الغافلة؟