النقد أو المراجعة المستمرة ثقافة مهمَّة في مسيرة الأفراد والمؤسسات، وظاهرة صحية تواكب عملية التطوير والتقويم والترشيد، لكن الملاحظ في الواقع أنَّ كثيراً من المؤسسات بأفرادها وقياداتها يضيقون ذرعاً بالنقد ولا تكاد تتحمّله، بل يصل الأمر إلى التشكيك في مصداقية النقد وحتّى جدواه، والنظر إلى صاحب النقد بنظرة الحاقد والمفرّق للمؤسسة أو المتمرّد عن قوانينها.
ولاشك أنَّ عملية النقد تثري العمل داخل المؤسسة، وتضع أمامه مكامن الخلل وأدوات التصحيح، وتقدّم له إشارات تسوقه إلى الطريق الصحيح وتضع له كوابح تمنعه من الانجرار إلى الأخطاء الكبرى وتحدّ من اتساع رقعة السلبيات داخل جسم المؤسسة.
وفي المقابل، فإنَّ تكلفة تقبّل النقد ورعاية المبادرين إليه أقلّ بكثير من تكلفة التنكّر لهؤلاء ووسمهم بصفاتٍ لا تليق أو إبعادهم والتقليل من شأنهم داخل المؤسسة؛ فبذلك تفقد المؤسسة خيرة أبنائها من أصحاب الفكر الألمعي والعقل الذكي. وتبقي على من يلتزم الطاعة والولاء ونكرات الذات داخل إطار المؤسسة، وفي هذا خلل كبير وخطأ جسيم حيث يتحوّل العمل داخلها إلى وظيفة وروتين يتقلّده الأكثر طاعة وولاءً، وليس الأكثر ذكاءً ووعياً وعطاءً.
أهمية النقد
يضع الدكتور سلمان العودة في كتابه (لماذا نخاف النقد؟) أهمّيتين للنقد، نذكرهما باختصار:
1- يعيد للإنسان اعتباره: إنَّ النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان، حيث يُقال له: يا فلان، تأمل وانظر واعمل وأعمل عقلك، وراجع ما تعرفه أنت من نصوص الشرع، ونصوص الكتاب والسنة، وإذا وجدت أمراً لا يليق من الناحية الشرعية، أو العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإياك أن تسكت على هذا الخطأ، وعليك أن تُبلغ، ولتعلم أنك إن سكت على هذا الخطأ، فأنت شريك في الإثم.
"عملية النقد تثري العمل داخل المؤسسة، وتضع أمامه مكامن الخلل وأدوات التصحيح، وتقدّم له إشارات تسوقه إلى الطريق الصحيح"
2- يجلّي صفة النقص والخلل: "إنَّه يجلّي للإنسان وللأمَّة والجماعة والدولة صفة نفسها وصورتها، فهو مرآة حقيقية لا زيف فيها ولا زيادة ولا نقصان، وربما لا يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم، وذلك لأنَّ الإنسان يمارس عيبه أحياناً بشكل طبيعي، وربما يعتقده أحياناً صواباً لا يري أنه خطأ، فكم من إنسان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صواب، فيحتاج إلى من يبصره بهذا الخطأ، ويقول له: أخطأت، والصواب كذا وكذا".
3- ثمَّ يؤكّد الدكتور العودة أنَّ البديل عن النقد الصحيح هو كيل المديح، بقوله: "فما أمامنا إلاَّ حلاّن: إمَّا النقد الصحيح، أو كيل المديح، وكثيرون يكيلون المديح والثناء والإطراء بلا حساب، وهذا الإطراء والثناء يغر الإنسان، ويغريه بأن يصرّ على الخطأ، كما أنه يخدع الأمَّة ويزوّر الحقائق".
وسائل الهروب من الأخطاء
يلجأ البعضُ خوفاً من النقد إلى تبرير الأخطاء، والبحث عن أساليب هروباً من الخطأ، فمن هذه الأساليب ما دوّنه الدكتور سلمان العودة، نأتي بها هنا مع شرح موجز:
"تكلفة تقبّل النقد ورعاية المبادرين إليه أقلّ بكثير من تكلفة التنكّر لهؤلاء ووسمهم بصفاتٍ لا تليق أو إبعادهم والتقليل من شأنهم داخل المؤسسة"
1- تجاهل السنن الكونيـة: أن تحيل الخطأ إلى الصدفة وتتجاهل السنن الكونية. فإذا وقعت الأمة في خطأ، هزيمة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، أحالت الأمة ذلك على أن هذا صدفة، أو ظروف الواقع، ونسينا دورنا نحن في هذا الخطأ.
2- التقليل من شأن الخطأ: هي تجاهل الخطأ والتقليل من شأنه، أو حتى أن تعتبره صواباً، فلا تعترف بأن هذا خطأ، بل تقول: إنَّ هذا صواب، وتصر عليه، وتقول كما قيل في المثل: "عنـزة ولو طارت".
3- الإحالة إلى القضاء والقدر: نعرف جميعاً أن القضاء والقدر والاحتجاج به، لم يعف أبانا آدم عليه السلام من أنه اعترف بخطئه {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23[.
4- إلقاء اللوم على الآخرين: أن تُلقي باللوم على الآخرين، وتخرج أنت سليماً بريئاً معافى.
5- التفسير الهروبي للخطأ: كمن يفسر الفشل بأنه ابتلاء من الله تعالى، وأنه ضمن الابتلاء، ويسوق الآيات الواردة في الابتلاء والاختبار، ولا يرجع ليقول: ما سبب ما حصل؟ سببه خطأ مني، أو تقصير في اتخاذ الأسباب.
النقد عن الإمام الشهيد حسن البنا
يقول الإمام البنا رحمه الله في رسالة الأسر، والتفاهم: وهو الركن الثاني من أركان هذا النظام: "فاستقيموا على منهج الحق، وافعلوا ما أمركم الله به، واتركوا ما نهاكم عنه، وحاسبوا أنفسكم حساباً دقيقاً على الطاعة والمعصية، ثم بعد ذلك لينصح كل منكم أخاه متى رأى فيه عيباً، وليقبل الأخ نصح أخيه بسرور وفرح، وليشكر له ذلك.
وليحذر الناصح أن يتغيّر قلبه على أخيه المنصوح بمقدار شعرة، وليحذر أن يشعر بانتقاص، أو بتفضيل نفسه عليه، ولكنه يتستر عليه شهراً كاملاً، ولا يخبر بما لاحظه أحداً إلاَّ رئيس الأسرة وحده إذا عجز عن الإصلاح، ثمَّ لا يزال بعد ذلك على حبه لأخيه وتقديره إيَّاه مودته له، حتَّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وليحذر المنصوح من العناد والتصلب وتغير القلب على أخيه الناصح قيد شعرة، فإنَّ مرتبة الحبّ في الله هي أعلى المراتب، والنصيحة ركن الدين: ((الدين النصيحة))، والله يعصمكم من بعض، ويعزكم بطاعته، ويصرف عنا وعنكم كيد الشيطان".