وصف المولى تبارك وتعالى شرابَ عباده الأبرار في الجنّة بأنَّ ختامَه مسكٌ، فقال: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ). ]المطففين: 25–26[. وختام هذا الشراب مسكٌ أو طيبه مسكٌ، كما ذكره بعضُ المفسرين. ولعلّ ختام الآية الكريمة يوحي بقيمة هذا الشراب شكلاً ومضموناً ممّا يجعل المؤمنين يتنافسون إليه؛ أي: وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى وليستبق إلى مثله المستبقون، ذكره ابن كثير في تفسيره.
إذاً، هذا ليس شراباً عادياً، بل هو "رحيق مختوم" و"ختامه مسك"، وكأنَّ المسك قد زيّنه وطيّبه وأصبح ذا صفة تفوق غيره من أنواع الشراب، فما السرّ في هذا المسك؟!..
والمعروف عن العرب أنَّ المسك يعدّ ملكَ أنواع الطيب وأشرفها وأنبلها، والمسك كلمة عربية هي اسمٌ لطيب من الأطياب القليلة التي مصادرها حيوانية، كالثور والسلحفاة والغزال، كما يقول الشاعر: فإنَّ المسك بعضُ دم الغزال...
وقد حبّب الطيبُ إلى النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((حُبِّب إِليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعَلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)).] أخرجه النسائي في سننه[. وروي عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: ((لو أنفق الرجل ماله كلّه في الطيب لم يكن مسرفاً)).
وتختلف أذواق الناس في اختيار واقتناء أنواع الطيب، فمنهم من يفضّل المسك الذي يعدّ ملكاً لها، ومنهم من يختار نوعاً دون آخر، ومنهم من يرى غير ذلك، لكنَّ للعلماء روائحَ محبوبة إليهم مقرّبة إلى أذواقهم لا تفتر نفوسهم في التوق إليها والاستزادة منها؛ إنَّها رائحة الكتب المعطّرة بأريج الحروف وعَبَق الكلمات، رائحة ممزوجة برحيق المعرفة والعلم، مختومة بطيبٍ مسكُه المدادُ الرّاسخ على أوراق وصفحات امتزجت فيها ذخائرُ العقول ومكنونُ الصدور، وقد تُزيّن تلك الرّائحة الفوّاحة في أوقات كثيرة بعضُ ذرات الغبار التي التصقت بأجزاء من جوانب الكتاب، ولعلّ هذا السرّ في القول المشهور: "عِطْرُ العُلماءِ غُبارُ الكتبِ".. فليس المقصود طبعاً المعنى الحرفي للعبارة وإنّما إشارة يفهمها العارفون الذي عشقوا الكتاب وعاشوا في رحابه.
تقليب أوراق الكتب قراءة ومراجعة ودراسة لذّة لا يعرفها إلاّ من ذاق حلاوتها، ونشوة لا يصل إليها إلاّ من خبر عبقها.
والمسك في أنواعه كالكتاب المفتوح في استعمالاته المختلفة في حياة المؤمنين، ولا غرو في ذلك، فقدوتنا الرّسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم كانت رائحة كفه المسك، وقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه: ((ولا شممت مسكًا ولا عنبرة أطيب من رائحة النبيّ صلى الله عليه وسلم)).
في علاقتنا الاجتماعية وتعاملنا اليومي مع الناس نحتاج إلى المسك عطراً وقولاً وفعلاً، فالجليس الصالح كبائع المسك، والكلمة الطيّبة كنفخة عطر والابتسامة الصادقة كهواء معطّر مختوم بالمسك.
وكتاب المسك أوراقه لا تنتهي وحبره لا ينفد لأنَّه يستقي من معين خالد لا يمسّه إلاّ المطهرون ولا ريب فيه وهو هدى للمتقين.
نعم، إنَّ للكتاب مسكاً يأنس به صاحبه ورائحة عطر مختومة بأغلى أنواع المسك يطيب لقاء من شرف بالكتاب.. ويبقى المسك كتاباً مفتوحاً يعطّر الأجساد والأرواح في غدّوها ورواحها وسكونها وحركاتها.. وبين مسك الكتاب وكتاب المسك يمضي المؤمنون في حياتهم ملبّين نداء الفطرة الرّباني ودعوة خير خلق الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم.. بين "اقرأ" الصوت القرآني في سورة (العلق) وبين السمت النبوي "أطيب الطيب المسك" في صحيح مسلم، يعيش المؤمنون حياة طيّبة في نعمة "مسك الكتاب" وهو يرفلون في نعمة "كتاب المسك".. وبين النعمتين مسافة (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).