نقد الرّجال .. المسلك والضوابط

الرئيسية » بصائر تربوية » نقد الرّجال .. المسلك والضوابط
إصلاح-المجتمع-660x330

لا يختلف اثنان في أنَّ النَّقد يمثل حاجة ملحة في مسيرة العمل التربوي والدَّعوي وضرورة من ضرورات استمراره ونجاحه، فالنّقد في مفهومه اللغوي يقصد به إخراج الزّيف والخبث الذي يحيط بالدَّراهم، يقول صاحب الصّحاح: (نَقَدْتُ الدراهم وانْتَقَدْتُها، إذا أخرجتَ منها الزَّيفَ)، ويقصد به أيضاً مناقشة الأمور ومراجعتها وتمحيصها، ففي الصِّحاح: (وناقَدْتُ فلاناً، إذا ناقشته في الأمر).

فإذا كان النَّقد في مفهوم اللغويين يمحّص الدراهم والنقود لتصبح أصيلة وذات قيمة، فإنَّ النقد عند أرباب الدَّعوة والتربية يعني غربلة الأتباع وتمحيصهم بين الفينة والأخرى، حتّى لا يبقى في المركب أصحاب المنافع والمآرب، لأنَّ خبثهم سيطال المركب بالتعفن والتآكل والاضمحلال، وكنت أسمع من أحد الدعاة الرَّبانيين في هذا العصر يفسّر قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. (المدثر:4)، تفسيراً إشاريًّا، فيقول فيما معناه: (على الدُّعاة اليوم أن يبادروا بتطهير حاشيتهم –لأنَّ الثوب يعدّ حاشية– فطهارة الأتباع هي نوع من النقد الذاتي، تحفظ الصَّف من الزلل وتنفي عنه الخبث).

"كما للنَّقد من دور في تنقية وتطهير الأجواء، فإنَّ للتجريح القوَّة الفاعلة والحاسمة في معرفة مَكْمَنِ العطل وسبب الدَّاء في الأشخاص والأفكار"

وكما للنَّقد من دور في تنقية وتطهير الأجواء، فإنَّ للتجريح القوَّة الفاعلة والحاسمة في معرفة مَكْمَنِ العطل وسبب الدَّاء في الأشخاص والأفكار، إذا خرج من وعائه الأصلي، واستعمل في المكان والزَّمان المطلوبَيْن، أمَّا إذا استفحلت منطلقات (إذا سرق فيهم الشريف تركوه)، أو (هو من بني فلان)، أو (هو الرَّاعي والدَّاعم..)، فإنَّ الخبث سيتكاثر ويعمّ، وحينها يصعب على الحركة الطَّاهرة تداركه أو اجتناب تداعياته.

وإذ أستعير في هذا الموضوع مصطلحات علم الجرح والتعديل المبثوث في كتب فنون مصطلح الحديث، فلأنَّ رجال هذا الفن استطاعوا أن يحفظوا لنا سنة النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم المصدر التشريعي الثاني بيضاءَ نقيّة صافية من كلِّ غريب ودخيل، فإذا تمكّنا من صياغة أعمالهم إلى واقع في حياتنا كان لنا الخير الكثير.

ولأنَّ هذا هو المنهج القرآني، وهو المنهج النبوي ذاته الذي سار عليه الصَّحابة والتابعون، يقول المعلمي اليماني: (أوَّل من تكلّم في أحوال الرِّجال القرآن، ثمَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم، ثمَّ أصحابه).

ليس من الغيبة المحرَّمة..

إنَّ مهمَّة الجرح والنَّقد ليست من الغيبة المحرَّمة، ولا تشوبها شائبة الاعتداء على الغير، وإنَّما مطلب ضروري للحفاظ على براءة الأقوال من الكذب، ونصاعة الأفعال من الدّنس، وحماية الصف من الدخن، وفي هذا يقول الإمام أبو حاتم الرَّازي: (ولمَّا كان الدِّين هو الذي جاءنا عن الله عزَّ وجل، وعن رسوله صلَّى الله عليه وسلّم بنقل الرُّواة، حقّ علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن النَّاقِلَةِ، والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرّواية.. وأن يُعْزَل عنهم الذين جَرَحَهُم أهل العدالة، وكشفوا لنا عن عَوْرَاتِهِم..).

ويقول الإمام الترمذي رحمه الله: (وقد عاب بعضُ مَنْ لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرِّجال، وقد وجدنا غيرَ واحدٍ من الأئمَّة من التابعين قد تكلموا في الرجال..). ثمَّ ساق –رحمه الله– جملة من هؤلاء الأئمة، وأقوالهم فيمن جرحوهم، ثمَّ قال: (وإنَّمَا حملهم على ذلك عندنا –والله أعلم– النصيحة للمسلمين، لا يُظَنُّ بهم أنهم أرادوا الطعن على النَّاس أو الغِيبة، إنَّما أرادوا عندنا: أن يُبَيِّنُوا ضعف هؤلاء لكي يُعْرَفوا). ثمَّ ساقَ بإسناده إلى يحيى القطان رحمه الله، أنَّه قال: (سألت سفيان الثوري، وشعبة، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة: عن الرَّجل تكون فيه تهمة أو ضعف، أَسْكُتُ أو أُبَيِّن؟ قالوا: بَيِّنَ).

"اعتماد الحيطة والحذر من سماع تراجم الأفراد بعضهم لبعض، وعليهم أن يمحّصوها ثمَّ ينخلوها مخافة أن يصيبوا قوماً بجهالة"

شروط وضوابط..

فمن شروط النَّقد والتجريح أن يكون معلَّلاً بالأسباب، وهذا هو قول جمهور العلماء: (لا يُقبلُ الجرحُ إلا مفسَّراً)، فربَّما كان وصف الجارح أو النَّاقد ليس موجباً لحكم يقدح في الشخص الموجَّه إليه النَّقد، لذا كان الجرح والنَّقد مقدَّمان على التعديل إذا كانا مفسَّرين، سواء زاد عدد الْمُعَدِّلين على الْمُجَرِّحين، أو نقص عنه، أو استويا، وهذا هو قول الجمهور، قال ابن الصَّلاح: (هو الصَّحيح).

نقد الأقران..

يقصد بكلمة (الأقران) هم المتساوون في المرتبة العلمية، وعاشوا في عصر واحد أو بلد واحد، وذلك لأنَّ نقدهم لبعض يخشى منه أن يكون بسبب تنافس أو تحاسد أو غيره من الاختلاف في الرَّأي أو المذهب.

ومن هنا كانت القاعدة الذهبية (كلام الأقران في بعضهم لا يقبل)، ومعناها أنَّ كلام القرين لا يقبل إذا كان المُتَكلّمُ فيه ثابت العدالة بكلام عامة أهل العلم، أي: لا يقبل كلام الأقران فيمن ثبتت عدالته. وفي ذلك يقول الإمام الذهبي: (محمَّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، الحافظ، محدِّث الكوفة، حطّ عليه محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، وحطَّ على ابن أبي شيبة، وآل أمرهما إلى القطيعة. ولا يعتدّ بحمد الله بكثير من كلام الأقران بعضهم في بعض).

وفي الرَّفع والتكميل للإمام اللكنوي: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لا سيّما إذا لاح لك أنَّه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلاَّ من عصمه الله، وما علمت أنَّ عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس).

وفي هذا فائدة تربوية على الدعاة والمربّين أن يقتنصوها في ضرورة اعتماد الحيطة والحذر من سماع تراجم الأفراد بعضهم لبعض، وعليهم أن يمحّصوها ثمَّ ينخلوها مخافة أن يصيبوا قوماً بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا من النَّادمين على شقِّ الصَّف، أو زرع البلبلة في أوساطه، أو تشتيت أتباعه.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …