حديث عظيم أضعه بين يدي أحباب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، المالئين أوقاتهم بالصلاة والسلام عليه، ومعه وقفات سريعة أتناول فيها قراءة بين ثنايا أسطر ذلك الحديث مع قلة كلماته وعظيم دلالاته، وذلك ضمن منهجية تحليلية لمفردات أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي جوامع الكلم التي فسرها ابن حجر بأن أحاديثه الشريفة "تقع فيها المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة"، وهو ما سعيت للتدليل عليه من خلال حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه (أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كان يقومُ يومَ الجمعةِ إلى شجرةٍ أو نخلةٍ، فقالت امرأةٌ من الأنصارِ، أو رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، ألا نجعلُ لك منبرًا؟ قال: (إن شئتم). فجعلوا لهُ منبرًا، فلمَّا كان يومَ الجمعةِ دُفِعَ إلى المنبرِ، فصاحت النخلةُ صياحَ الصبيِّ، ثم نزل النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فضَمَّهَا إليهِ، تَئِنُّ أنينَ الصبيِّ الذي يُسَكَّنُ. قال: (كانت تبكي على ما كانت تسمعُ من الذِّكْرِ عندها). صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3584.
- يتجلى في هذا الحديث تواضع النبي صلى الله عليه وسلم من عدة جوانب، وهو القائد والرسول فليفطن لذلك القادة ومن يعتلي المنابر الفارهة، فهو المربي الحنون الذي ينصت لمشورة رعيته على اختلاف فئاتهم ذكوراً وإناثاً، وهو المتواضع الذي لم يكن منبره من الأخشاب النادرة المطعمة بالجواهر واللؤلؤ المحفورة بيد أمهر النحاتين، لم يكن منبره من الذهب أو الفضة أو العاج الثمين أو الرخام النفيس، بل كان جذع نخلة لا غير، ولم يرغب هو في تغييره إلا نزولاً عند رغبة أصحابه لا سمعة أو شهرة بل لتحقيق مصلحة للمسلمين.
- يفيض ذلك الحديث بالمشاعر الفياضة من الصحابة حباً وتوقيراً وتعظيماً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، فهم يستمعون إليه وقلوبهم معلقة به وبأحواله وشؤونه، وأدبهم الجم مع حبيبهم يجعلهم يستأذنونه في كل شيء، فيقولون له: ألا نجعل لك منبراً؟ ويجيبهم بأدب أعظم وحب أشد: إن شئتم.
- تتبدى فطنة امرأة في الحديث لأمر فيه مصلحة للمسلمين، ففي رواية تبين المغزى والعلة من إقدامهم على إشارتهم بعمل المنبر قولهم: (هل لَكَ أن نجعلَ لَكَ شيئًا تقومُ عليْهِ يومَ الجمعةِ، حتَّى يراكَ النَّاسُ وتسمعَهم خطبتَكَ؟) صحيح ابن ماجه - خلاصة حكم المحدث الألباني: حسن. ويشير ذلك إلى أن الحديث يؤرخ لحقبة ازداد فيها أعداد المسلمين فتطلب الأمر وضع المنبر كي تتاح لأكبر عدد منهم رؤية الحبيب والاستماع إليه.
"يعزز الحديث حقاً راسخاً للمرأة بإبداء رأيها بكل حرية، في كل المحافل، وفي كل شؤون المسلمين، ولو تعلق الأمر بشأن يخص القائد العام"
- يعزز الحديث حقاً راسخاً للمرأة بإبداء رأيها بكل حرية، في كل المحافل، وفي كل شؤون المسلمين، ولو تعلق الأمر بشأن يخص القائد العام، وتلك الصورة مغايرة تماماً لما يشيعه أعداء هذا الدين عن مكانة المرأة في الإسلام، وتؤكد المشاركة الفعالة لها في كل مناحي الحياة بأبعاد لم يصل لها أي دين أو مجتمع في شرق أو غرب. ومع حرية إبداء الرأي يتبدى حقها الراسخ الأصيل في طلب العلم وحضور مجالسه ومن ذلك خطب الجمعة.
- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتفي بإتاحة المجال لأصحابه في إبداء آرائهم والتعبير عن مكنونات نفوسهم في بيئة شوروية أصيلة، وإنما يتعدى ذلك إلى التفويض التام لهم في الشأن الذي أشاروا به عليه وهو هنا وضع المنبر، فقد كان رده عليهم: (إن شئتم)، فهو لا يجبرهم على شيء، ولا يكتفي بتوجيه الأوامر يمنة ويسرة كما يتخيل كثير من القادة والزعماء والمدراء بأن وظيفتهم مقتصرة على إصدار الأوامر والتوجيهات لمن حولهم في كل شؤون الحياة!! (إن شئتم) أنتم فالأمر نابع منكم والعمل خاص برغبة لديكم أنتم، فإن كان أمراً تحبونه فلكم ذلك، إن من شأن ذلك تعزيز الرغبة لديهم في تبني ما قد أشاروا به، ليؤكدوا له مدى قناعتهم به وتجذره في نفوسهم وأن ذلك قرارهم الذي لا يحيدون عنه ومشيئتهم النابعة من حب متأصل في نفوسهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
- أثنى الله تعالى على نبيه في كتابه المجيد بقوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة للعالمين كافة، وقد جعل لتلك الرحمة التي جبله عليها شواهد من سيرته صلى الله عليه وسلم، فكان بحق نبي المرحمة ليس فقط مع أهله وآل بيته وأزواجه وذريته وأصحابه وأتباعه، وليس فقط مع مخالفيه ومناصبيه العداء، وإنما تعدى ذلك إلى الشجر والحجر والجن والدواب والهواء وكل العالمين. والحديث يظهر رحمته بخشبة ذاقت حلاوة القرب منه فحنّت وأنّت لابتعاده عنها، فلم يحرمها صلى الله عليه وسلم من دفقة من دفقات حنانه ورحمته من صدره الشريف بالتزامها واحتضانها.
- إضافة إلى رحمته صلى الله عليه وسلم فقد تجلى خلق الوفاء الأصيل في النبي عليه السلام فقد أمر بدفن الجذع في ذات المكان المبارك تحت المنبر كما ورد في الحديث: (فأمر به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فدُفِنَ) السلسلة الصحيحة، حكم المحدث الألباني: إسناده جيد وهو على شرط مسلم.
- يورد الحديث إحدى المعجزات المادية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تضاف إلى كم كبير من المعجزات التي أيده الله تعالى بها، وهي لا تتعلق هنا بدفع ضرر عنه أو عن أصحابه، ولا تتعلق بكشف غيبي، إنها معجزة عجيبة فاقت معجزات الكثير من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهي لا تخدم أمراً وقتياً لكنها تعزز التعريف بعظيم قدر ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم عبر الأزمنة، وعظيم قدر ما جاء به من الذكر والعلم الشريف، فأثرها غير محصور بلحظة حدوثها وإنما يمتد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وممن وعى عظم هذه المعجزة الإمام الشافعي رحمه الله فقد قال: (ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم). فقيل له: أعطي عيسى إحياء الموتى. قال: (أعطي محمداً حنين الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك).
- إن حدوث تلك المعجزة لنبينا عليه السلام تم باختيار الله تبارك وتعالى لكل ما أحاط بها، وكل مكوناتها يحظى بمكانة رفيعة ومنزلة كريمة بدءاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الكرامة والمعجزة، ومروراً بالزمان (يوم الجمعة) والمكان (المسجد النبوي الشريف والمدينة النبوية المنورة) الذين حظيا بشرف حدوث تلك المعجزة فيهما، ومعهما صحابة رسول الله الذين اصطفاهم الله تعالى ليشهدوا بأعينهم تلك المعجزة على يد نبيهم صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي يحتم علينا التأدب معهم وإيفاءهم حقهم كاملاً حباً وتكريماً ودعاءً ودفاعاً عنهم -رضوان الله تعالى عنهم- مع اليقين التام بأنه لا يمكن أن يجتمع بغض الصحابة أو الإساءة لهم أو سبهم وشتمهم مع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عقلاً ولا نقلاً ولا شرعاً.
- تشرف الزمان بتلك الكرامة والمعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحاز يوم الجمعة على ذلك الفضل العظيم، وازدادت خصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم فيه، فهو الذي قال عنه: (إنَّ من أفضلِ أيَّامِكم يومَ الجمعةِ، فيهِ خلقَ آدمُ، وفيهِ النَّفخةُ، وفيهِ الصَّعقةُ، فأَكثروا عليَّ منَ الصَّلاةِ فيهِ، فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ). صحيح ابن ماجه، حكم المحدث الألباني: صحيح. ولنا أن نُعَرِّف يوم الجمعة بأنه اليوم الذي أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمعجزة حنين الجذع وأنينه، وهو يوم اللقاء بين الحبيب وأحبابه فقد كان يترقبه الصحابة ليكحلوا أعينهم برؤية نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكان كل من حولهم يترقب ذلك اليوم بما في ذلك جذع النخلة المتشوق له ولسماع الذكر منه، وما علينا إلا أن نشاركهم ترقبهم ليوم الجمعة لملأ ذلك اليوم صلاة وتسليماً على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. حباً وشوقاً.
- في الحديث حث على طلب العلم والحرص على حلقات الذكر للرجال والنساء والأطفال، فإذا كانت النخلة صاحت ألماً (على ما كانت تسمع من الذكر حولها)، فحق لمن حرم حلق الذكر ودروس العلم أن يبكي على نفسه ويصيح ألماً على ما فاته من الخير، فتلك نعمة كبيرة لا تقارن بلذائذ ومتع الدنيا كلها. وعليه فمغبون من تيسر له أن ينهل من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة أو سيرته، أو يستمع إليها ثم هو يفرط في ذلك، أو يقدم عليها أموراً دنيوية.
- في الحديث إشارة إلى عظيم أثر الذكر في الذاكرين ومن حولهم سواء الذين يرونهم والذين لا يرونهم أو يشعرون بهم، بل ويتعدى الأثر حتى في الجمادات، وعلينا ألا نستهين بأثر الذكر في حياتنا فقد أثبت العلم الحديث حدوث تغيرات في طبيعة الماء الذي يقرأ عليه القرآن، وخلو لحوم الذبائح التي يتم تذكيتها ذكاة شرعية مع التسمية من الجراثيم والميكروبات بالمقارنة مع نظيرتها غير المذكاة.
- ارتبطت النخلة في الكثير من المواضع بالذكر والخير والبركة، وفي ذلك توجيه نبوي شريف للاعتناء بها والاهتمام بزراعتها وتناول التمر والرطب طعاماً صحياً مباركاً، كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يا عائشةُ! بيتٌ لا تمرَ فيهِ، جياعٌ أهلُهُ. يا عائشةُ! بيتٌ لا تمرَ فيهِ جياعٌ أهلُهُ - أو جاعَ أهلُهُ - قالها مرتينِ، أو ثلاثًا). صحيح مسلم. ولا يقف الأمر عند العلاقة مع النخلة في إطار منافع دنيوية، بل إنها تمتد إلى حياة الخلد السرمدية عندما يرتبط تسبيح الله وتكبيره وتهليله بهذه الشجرة المباركة والمآل الحسن، حين تختلط عذوبة الذكر وحلاوته باستشعار ما أعده الله تعالى من ثواب عليه نخلات يغرسها الله لك على ضفاف أنهار اللبن والخمر والعسل في جنان الخلد كما في حديث الحبيب المصطفى: (مَن قالَ: سُبحانَ اللَّهِ العظيمِ وبحمدِهِ، غُرِسَت لَهُ نخلةٌ في الجنَّةِ) صحيح الترمذي- حكم المحدث الألباني: صحيح.
- إن آثار هذا الحديث عميقة ممتدة فيمن وقر حب النبي صلى الله عليه وسلم قلوبهم، وتشربتها أرواحهم فهذا الحسن البصري رحمه الله كان إذا حدّث بحديثِ حنين الجِذْع، يقولُ: (يا معشرَ المُسلمين، الخشبةُ تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه). فتح الباري 6/697.. وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (حينما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نقول: يا رسولَ الله إنَّ جذعاً كنتَ تخطب عليه فترَكتَه فَحَنَّ إليك، كيف حين تركتنا لا تحنُّ القلوب إليك؟).
ولله در الشاعر إذ يقول:
يحنّ الجذع من شوقٍ إليك **** ويذرف دمعه حزناً عليك
ويجهش بالبكاء وبالنحيب **** لفقد حديثكم وكذا يديك
فمالي لا يحن إليك قلبي **** وحلمي أن أقبل مقلتيك
وأن ألقاك في يوم المعاد **** وينعم ناظري من وجنتيك
إنه الحنين الذي نصبو للوصول معه إلى حالة يتغلغل فيها حبّه بأرواحنا وأفئدتنا، ويتحول إلى اتباع واقتداء لكل ما أتانا به نبينا صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عن كل ما نهانا عنه، بنفس طيبة راضية محبة مطواعة، عسى أن نصل إلى وصف تلك الفئة التي أخبر عنها حبيبنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (مِن أشدِّ أمَّتي لي حبًّا، ناسٌ يَكونونَ بَعدي، يودُّ أحدُهُم لَو رآني، بأَهْلِهِ ومالِهِ) صحيح مسلم.