عبارة اقتنَصَتْها "قناة الجزيرة" من مقابلة كانت قد أجرتها مع الشيخ الشهيد أحمد ياسين واختارتها عنواناً للمشهد الأخير الذي أطلّ منه الشيخ على محبيه ناصحاً ومعلماً ومرشداً.. ومودّعاً..
تساءلت يومها متعجباً: "ترى، لماذا اختار الشيخ رِضى الله تعالى عنه أملاً وغايةً ومراماً؟
لماذا لم يقل: أملي أن أصلي في الأقصى المبارك؟ أو أن يرى فلسطين محررة من الغزاة، أو أن يرى الرايات الخضراء مرفرفة عالية في ربوع الأرض المباركة؟
إنها إحدى أسرار الشيخ التي لم يكن صعباً على كل من اقترب منه وعايشه واحتك به أن يطّلع عليها ويفهم دلالاتها العميقة التي صاغت تلك الشخصية الفريدة..
سيرة الشيخ تنبئك عن تلك الأسرار وتجيبك على تلك التساؤلات.. فهو ببساطة كان على ثقة مطلقة بوعد الله تعالى واطمئنان إلى ما يخبئه القدر من تدابير، حتى لكأنه كان يلمح فجر الانتصار لجموع المؤمنين ويرى بواكير الاندحار للغزاة المحتلين.. بل إنه تحدث عن سَنة بعينها يزول فيها الكيان الغاصب وأن ذلك قريب ويوشك أن يتحقق لهذا الجيل الذي شهد انتفاضة الأقصى!!
كان قلبه معلقاً بالأقصى وتاقت نفسه لرؤيته خلال رحلته من عمّان إلى غزة فطلب من مرافقيه وضعه قرب نافذة الطائرة علّه يحظى برؤية ساحاته ومآذنه وقبابه لكنه كان يعلم أنه إن لم يحظ بالصلاة فيه فإن أبناءه أو أحفاده لن تخطئهم تلك الصلاة.. ولذلك فقد كان منطقياً أن يرتفع في طلبه لغاية أعلى وأسمى..
كان على يقين أن من سار على الدرب الجهادي فسيصل حتماً إلى يوم تحرير فلسطين من الأعادي، ومن التزم نهج النبيين والصديقين وأقام دولة الإسلام في نفسه فلابد أن يراها على أرضه ووطنه تظللها رايات لا إله إلا الله. واطمئنانه لتلك النتيجة جعل نفسه تتوق لأمر أسمى وأعلى..
سعى الشيخ دائباً إلى معالي الأمور وأشرفها وأزكاها وأعظمها درجة عند الله تعالى، تجلى ذلك بأبهى وأروع صوره من بين ثنايا تلك العبارة التي صدرت عن الشيخ رحمه الله. إنها العبارة التي كشفت مدى سعة أفق الشيخ وعميق فهمه ووافر علمه..
اختار الشيخ رضوانَ الله الذي هو أعظم نعيم يمكن أن ينعم به المولى عزّ وجلّ على عبده.
اختار النعيم الذي يفوق نعيم الدنيا والآخرة بوصف الله له "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم" (التوبة:72).
اختار النعمة العظمى التي يهبها الله تعالى للصفوة من عباده عندما يخاطبهم وهم في دار كرامته كما في الحديث: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَلا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (متفق عليه).
اختار خُلُقَ الرضى الذي أنعم الله به على خير خلقه عليه الصلاة والسلام وتمسك به في دعائه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" (رواه مسلم).
اختار هذا الخلق الذي قال عنه ابن القيم إنه "باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين".
اختار خلق الرضى الذي قال عنه أحمد بن أبي الحواري "من عرف الله آثر رضاه".
رحم الله الشيخ أحمد ياسين فقد آثر رضى الله على كل شيء فاللهم أرضه وارض عنه واجعل نفسه راضية مرضية واجعله في عيشة راضية في جنة عالية مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً..