شغلت، ولم تزل، الكثير من الدوائر السياسية والإعلامية المعنية بشؤون الحركة الإسلامية، سواء في العالم العربي والإسلامي، أو على مستوى العالم الغربي، الذي ما فتيء يثير الكثير من الغبار والتشويش حول قيمنا الإسلامية، وقيم المشروع الحضاري النهضوي الذي تحمله الحركات الإسلامية الصحوية؛ شغلت هذه الأوساط بالترويج لقضية "التطرف عند المسلمين"، باعتباره أحد "الأعداء الألداء" للحضارة الإنسانية وصيروراتها.
وبالرغم من أن هناك الكثير من المغالطات العمرانية والتاريخية في هذا الاتهام الذي لم يتم ترويجه إلا للتشويش على المشروع، وعرقلته؛ إلا أن فيه الكثير من الجوانب التي تدخل على الكثيرين في عالمنا العربي والإسلامي، في ظل انتشار حالة من التجهيل والأمية والتضليل المتعمدة من جانب أنظمة الفساد والاستبداد الحاكمة، من أجل ضمان استمرارها في حكم شعوبها.
"التطرف يرتبط بالمكون الفكري والأيديولوجي للمجتمع الذي يتم فيه وصف طرف فيه بأنه متطرف، وهو خاضع لطبيعة فهم المجتمع للأسس والقواعد التي تحكم المجال الذي يحكم المجتمع فيه على هذا أو ذاك"
وهو الهدف الذي في سبيله يمكن لها أن تتحالف مع الشيطان لأجله، وبالفعل، فقد تحالفت مع المشروع الغربي الصهيوني، منذ سقوط دولة الخلافة في العشرينيات الماضية، في محاولة فاشلة لإجهاض المشروع الإسلامي وهو يتقدم بخطىً حثيثة لتحقيق أستاذية العالم، ونشر نور الإسلام وتمكينه في ربوع الأرض، كما شاءت إرادة الله عز وجل، وكما استخلف بني آدم في هذه الأرض، لأجل ذلك.
والتطرف، مصطلح أحادي الاتجاه، فلا يستخدمه سوى طرف لوصف طرف آخر كما أنه نسبي؛ حيث إنه يرتبط بالمكون الفكري والأيديولوجي للمجتمع الذي يتم فيه وصف طرف فيه بأنه متطرف، فهذا متطرف أو غير متطرف، خاضعة لطبيعة فهم المجتمع للأسس والقواعد التي تحكم المجال الذي يحكم المجتمع فيه على هذا أو ذاك، فردًا أو جماعة، بأنه "يتطرف" في فكره وفعله في هذا المجال؛ سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا، أو أيًّا كان.
ويستخدم المصطلح بالأساس في مجال وصف أفكار أو أعمال على حد سواء، ولكنه يرتبط بالفكر بشكل رئيسي، ويشير إلى اتجاه "عمدي" من جانب أصحابه للأخذ بأقصى المواقف.
وبشكل عام فإن وصف التطرف يكون لوصم أيديولوجية سياسية أو فكرية، وفي الغالب تكون – أو هكذا يحاول أصحاب هذا الإطلاق أن يصفوها، بأنها مخالفة لما هو سائد في المجتمع من أفكار أو أيديولوجيات سياسية، وعمومًا، يكون هذا الإطلاق، أو الوصف بالتطرف، مرتبطًا بفكرة "التشدد" في المواقف.
وقد يكون التطرف مقرونًا بممارسة شكل من أشكال العنف المرتبط بالتخريب، ولبواعث سياسية.
ولكن أصحاب هذا المفهوم الذي يروجونه ضد المشروع الإسلامي، يتجاوزون عن أمرين مهمَّيْن؛ الأول هو التجاهل الكامل للجانب الآخر من المفهوم، والثاني، هو أنهم هم أنفسهم بمواقفهم هذه من التيار الإسلامي –أيًّا كان طيفه الفكري أو السياسي أو المجتمعي– إنما يمارسون ذات خطيئة التطرف التي يتهمون بها الغير.
أما الأمر الأول؛ فإن لكل شيء طرفَيْن، وبالتالي فإن التطرف بمعنى التشدد، يقابله تطرف آخر، وهو التفريط، فالتطرف لا يقترن بالتشدد فحسب؛ وإنما بمصطلح آخر، وهو المغالاة، أي أخذ الأمر بأكبر من قدره، بما لا يستقيم معه الأمر، ويتجاوز مستوى الوسطية المقبول في أي أمر من الأمور.
"دعاة التغريب والليبراليون والعلمانيون في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لا يرفضون التطرف بمعنى التشدد والمغالاة فيه بشكل ما بقدر ما هم يرفضون التديُّن"
إذن، التطرف مغالاة، وقد يكون مغالاة في التشدد، وقد يكون مغالاة في التفريط، وهو الجانب الذي يتجاوز عنه العلمانيون والليبراليون ودعاة التحرر من ضوابط وقواعد الدين التي هي ضوابط وقواعد الفطرة الإنسانية السليمة.
وهذا الموقف مفهوم من جانب دعاة التغريب والليبراليون والعلمانيون في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهم لا يرفضون التطرف بمعنى التشدد والمغالاة فيه بشكل ما بقدر ما هم يرفضون التديُّن.
وهو ما يقودنا إلى الحديث عن الأمر الثاني، وهو أن دعاة الحرية والليبراليين، سواء من الموجودين في المجتمعات العربية والمسلمة، أو مفكري وساسة الغرب وإعلامييه، يمارسون ذات الخطيئة التي يحاولون وصم غيرهم بها.
فهم عندما يغالون في دعاوى التحلل من الدين، ورفض تحكيمه في المجتمعات التي يعيشون بها، إنما يمارسون خطيئتَيْن وليست خطيئة واحدة؛ فهم أولاً يتطرفون في مواقفهم من الدين والمتدينين، ويدعون إلى التفريط بدلاً من معالجة الإفراط القائم من وجهة نظرهم، أو حتى بحكم الأمر الواقع.
فهناك الكثير من المسلمين متطرفون، كما الكثير من المسيحيين واليهود والبوذيين والهندوس، وغيرهم من أتباع الديانات السماوية الوضعية والفلسفات البشرية على حد سواء، ولكن علاج هذا التطرف بمعنى التشدد والإفراط، لا يكون بالدعوة إلى الانحلال والتفريط، وإنما بالمعالجة الفكرية التي تقود إلى الوسطية.
الخطيئة الثانية التي يفعلونها، هو أنهم يفتئتون على حرية الفكر لدى غيرهم، فكل إنسان من حقه تبني الفكر أو الدين أو الفلسفة أو الأيديولوجية التي تروق له، طالما أنه لم يتجاوز في حريته هذه حقوق المجتمع وحريات وحقوق الآخرين، أو يخالف فيها ما استقر عليه المجتمع من أخلاقيات وقواعد قيمية عامة.
ولذلك؛ فإنه حتى الفكر التكفيري، والأفكار الإباحية، على حد سواء، من حق كل إنسان أن يعتقد فيها، ما دام لا يفسد ولا يقوم بفرض أفكاره المنحرفة على المجتمع، أو يظهرها بالشكل الذي يأباه هذا المجتمع؛ فلا إكراه في الدين، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، بنص القرآن الكريم.
"الديمقراطية عند العلمانيين والليبراليين مقبولة عندما تأتي بمن يرغبون، ولكنها تكون مرفوضة عندما تأتي بمن لا يرغبون"
ومن ثَمَّ؛ فمن حق المتدينين أن يكونوا كذلك، ولا يجوز لأي أحد –وفق كل دعاوى الديمقراطية والحرية التي ينادي بها الغرب ومريدوه– أن ينكر عليهم تدينهم.
ولكن الذي يحدث هو العكس، وهو تمامًا ذات ما جرى عندما وصل الإسلاميون في مصر والجزائر والسودان وفلسطين، وفي غيرها من بقاع العالم العربي والإسلامي، إلى الحكم من خلال صناديق الاقتراع، بانتخابات حرة ونزيهة شهد لها العالم كله.
وقتها صارت الديمقراطية مُنكرة، ولم يتم الاعتراف بما جاءت به الصناديق وعبرت به عن إرادة الجماهير، فهي فقط –هذه الديمقراطية– مقبولة عندما تأتي بمن يرغبون، ولكنها تكون مرفوضة عندما تأتي بمن لا يرغبون!
وفي الأخير؛ فإن خصوم المشروع الإسلامي يمارسون أبشع ألوان التطرف ضده، بدعوتهم إلى التفريط والتحلل من قواعد التدين، وبمحاولاتهم فرض رؤاهم هذه على المجتمعات.
والمدهش أنهم يقومون بذلك، بالرغم من أنهم أقلية فيها؛ فلم تزل غالبية المجتمعات العربية والإسلامية تحتفظ بهويتها الدينية والمحافظة على عاداتها وتقاليدها، وهو ما أثبتته في أكثر من موضع، صناديق الاقتراع، عندما قالت الجماهير كلمتها وصدَّرت الإسلاميين في المشهد السياسي والاجتماعي.
ولكن هؤلاء يستندون إلى قوة قوى أكبر في الخارج، وهي القوى الداعمة للمشروع الغربي الصهيوني، بكل ما فيه من محتوىً يدعو للتحلل من القيم.. كل القيم!