العُمرة .. كيف يكون التزود الإيماني قبل المسير؟

الرئيسية » بصائر تربوية » العُمرة .. كيف يكون التزود الإيماني قبل المسير؟
العمرة27

أم مصطفى تخرج عمرة لبيت الله الحرام كل رمضان، فهي قد نذرت ذلك منذ وفاة زوجها قبل عشرة سنين، تذهب بلهفة للتمتع بالأجواء الروحانية هناك، فهي كما تقول لـ"بصائر" تظل غالب وقتها في الحرم مع رفيقاتها اللواتي اعتدن للخروج معاً في نفس الحملة من أجل تخفيف أعباء المسير على بعضهن. تختم أم مصطفى حديثها بالدعاء أن يقبضها الله وهي في تلك الديار التي تتلألأ بركة، وتتمنى أن يصلى عليها في الحرم المكي.

تزود المعتمر

عادة ما تعج حافلات الذاهبين إلى العمرة بالطعام والأغطية والحاجيات وقوائم طلبات الأحبة لشرائها من الديار المقدسة، وتعود حقائبهم محملة بأشياء كثيرة يفضلون شراءها من الأسواق هناك حيث يكون سعرها أقل من الأسعار في الأسواق المحلية؛ لكن كيف يكون التزود الإيماني المطلوب لهذه الرحلة التي يجب أن يكون طلب الدنيويات فيها كفافاً؛ كي يتفرغ المعتمر لمناجاة ربه والتمتع بالروحانية في مهبط الوحي وعرين دولة الإسلام التي قامت على يد النبي صلى الله عليه وسلم؟

"معاذ العودات: من المهم أن يؤدي العبد الطاعة وكأنّها آخر أعماله في الدنيا؛ فهذا أدعى للإخلاص وحضور القلب والإتقان ثمّ الرجاء بالقبول"
"معاذ العودات: من المهم أن يؤدي العبد الطاعة وكأنّها آخر أعماله في الدنيا؛ فهذا أدعى للإخلاص وحضور القلب والإتقان ثمّ الرجاء بالقبول"

يفتتح الداعية وإمام وخطيب جامع اليرموك معاذ العودات حديثه الخاص لـ"بصائر" بالحديث عن زاد قاصد بيت الله الحرام فيقول: يكون الزاد لمن أراد زيارة البيت الحرام معتمرا أن يمتلأ قلبه شوقا لحضور الكعبة والطواف بها، إذ الشوق لعمل الطاعة وانتظارها وترقب أدائها هو من جنس العبادات التي يثاب عليها العبد، دل على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط". لا سيّما أنّ التشوّق لأداء العمرة يدفع المعتمر إلى الجدّ والاجتهاد في الطاعة واستغلال أوقاتها واغتنامها لحين عودته.
ويشير الداعية العودات إلى أهمية أن يؤدي العبد الطاعة وكأنّها آخر أعماله في الدنيا؛ فهذا أدعى للإخلاص وحضور القلب والإتقان ثمّ الرجاء بالقبول.

وفي ذات السياق، يرى الدكتور أحمد فتحي قاسم إمام وخطيب مسجد طارق بن زياد والمدرس في مسجد اربد الكبير أنه يجب على من أراد أداء العمرة أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى، لأن العمل حتى يكون مقبولاً لا بد له من شرطين: الإخلاص والمتابعة. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. بالإضافة إلى التوبة النصوح، ورد المظالم إلى أهلها، وكتابة الوصية، وتحري المال الحلال، واختيار الرفقة الصالحة، وتربية النفس على الامتثال لأوامر الله، وتربية النفس على الالتزام بالنظام والانضباط، والتواضع والانكسار بين يدي الله.

العمرة للعمرة كفارة لما بينهما

ثبت في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". ويعلق الداعية العودات على الحديث الشريف بأنه لا يعني التهاون في السيئات واقتراف المنكرات مستدلاً بما يلي:
أولاً: إنّ من علامة قبول الطاعة أنْ يُتبع العبد طاعة بعد الطاعة، فإن فعل ذلك؛ كان ذاك العبد ممّن يُرجى لهم القبول، بل من الذين يمدّهم الله بالتقوى، إذ قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]. فطالما تزوّد العبد بأعمال الهدى؛ فسيوفّقه الله لمزيد من أعمال الهداية حتى يصير من عباد الله المتقين.

ثانيا: المقصد النبويّ من تكفير الخطايا من العمرة إلى العمرة -كما قال جمع من شراح الحديث- أنّ المقصود بالتكفير هو الصغائر دون الكبائر، قال النووي: (مذهب أهل السنة أن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله وفضله). و قال ابن عبد البر: (المراد تكفير الصغائر دون الكبائر). ثمّ حتى لو سلّمنا أنّ تكفير الذنوب ما بين العمرتين يشمل الصغائر والكبائر؛ إلا أنّه ليس من هدي الصالحين أن يهدموا صالح أعمالهم باقتراف الكبائر خوفا أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، وأما إن كانت الذنوب من الصغائر؛ فقد أخرج الإمام أحمد بسند حسنه الألباني أن رسول الله قال: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ" وإنّما النجاة تكون بأن يتقي العبد الله ما استطاع، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} [التغابن:16].

"العودات: مهما قدم العبد من أعمال صالحات؛ فلا ينبغي أن يستكثرها، إذ استكثار الطاعة والاغترار بها قد يكون من محبطات الأجور "

ثالثا: مهما قدم العبد من أعمال صالحات؛ فلا ينبغي أن يستكثرها، إذ استكثار الطاعة والاغترار بها قد يكون من محبطات الأجور. فها هو معاذ على فراش الموت يحتقر أعماله وغزواته مع رسول الله، ويقول: "اللهم إنّي أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار". وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن ينجي أحدا منكم عمله. قال رجل: ولا إياك يا رسول الله؟ قال ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا". وإذا أراد العبد أن يستشعر قبول عبادته فلا بدّ أن يتلمّس قلبه، فإن وجد في قلبه بعد الطاعة ذلاً وانكساراً؛ كان هذا من علامات قوم قال الله فيهم: {وبشر المخبتين} [الحج:34] أي بشّر المتواضعين الخاضعين لربهم بخيرَي الدنيا والآخرة. ومن هذا المنطلق قال بعض السلف: ربّ طاعة أورثت عزاً واستكباراً، وربّ طاعة أورثت ذلاً وتوبة وانكساراً، وقال إسحاق بن خالد: ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول ابن آدم: ليت شعري بماذا يختم لي؟ عندها ييأس إبليس ويقول: متى يُعجب هذا بعمله؟!

ما هي علامات قبول العمرة؟

يختم الداعية معاذ العودات حديثه لـ"بصائر" بالحديث عن علامات قبول العمل الصالح والذي من ضمنها العمرة؛ فيؤكد على بقاء الرجاء من الله أن يتقبل من عباده الطاعة التي أدّاها، بالإضافة لمراعاة ما ذكرناه سابقا من عدم التجرّؤ على المعاصي، أو الاغترار بالطاعة.
قال الشافعي: (إذا خفت على عملك العُجب فاذكر رضا من تطلب، و في أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله).
وقال سيدنا عليّ رضي الله عنه: (لا تهتمّوا لقِلّة العمل، واهتمّوا للقَبول، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

كيف يتم المحافظة على العمرة؟

د. أحمد قاسم: للعمرة آثار كثيرة منها انشراح بالصدر، ودافعية للعمل الصالح، وشعور بحلاوة العبادة والطاعة، وإحساس بزيادة الإيمان، وحسن ظن بالله تعالى وخوف منه عز وجل"
د. أحمد قاسم: للعمرة آثار كثيرة منها انشراح بالصدر، ودافعية للعمل الصالح، وشعور بحلاوة العبادة والطاعة، وإحساس بزيادة الإيمان، وحسن ظن بالله تعالى وخوف منه عز وجل"

يرى الدكتور أحمد قاسم أن المحافظة على العمرة تتطلب أموراً كثيرة منها:

- المحافظة على الإخلاص في العمل لأنه بقدر ما يكون الإخلاص يعظم الأثر ويزداد النفع. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب؛ من الإيمان، والمحبة، والتعظيم، والإجلال، وقَصْد وجه المعبود وحده، دون شيء من الحظوظ سواه".
- المحافظة على البراء من الشيطان والولاء للرحمن.
- التضحية بالمال والنفس في سبيل الله تعالى.
- المحافظة على الصحبة الصالحة المرافقة له في العمرة؛ لتدوم المحبة والتواصي بالحق.
- المحافظة على الصلوات الخمس جماعة، والأذكار، والطاعات.
- الابتعاد عن المعاصي والذنوب، لأنّ الذنوب تمحق بركة العبادة، سئل وهيب بن الورد رحمه الله: "أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: ولا من هم، أي: من هم بالمعصية".
- استحضار رقابة الله تعالى في كل وقت وحين؛ فالله سبحانه وتعالى عليم بتصرفاتنا في أيام العمرة وقبلها وبعدها.
- استحضار المعتمر عندما يعود وقد غفر الله تعالى له ذنوبه وقد فتح صفحة بيضاء جديدة مع الله أن يحافظ على بياضها الناصع وألا يعود لملئ هذه الصفحات بالخزي والندامة.

ويكمل الدكتور قاسم بأن للعمرة آثار على النفس، منها: انشراح بالصدر، وسرور بالقلب، ونور بالوجه، ودافعية للعمل الصالح، وشعور بحلاوة العبادة والطاعة، وإحساس بزيادة الإيمان، وحسن ظن بالله تعالى، وخوف منه سبحانه، وإحساس بالتقصير، يقول ابن تيمية رحمه الله: "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور، يعني لا بد أن يثبت العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة وانشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
صحفية في موقع "بصائر" الإلكتروني، وصحيفة "السبيل" اليومية الأردنية في قسم الشؤون المحلية والتحقيقات. وكاتبة في مجلة "الفرقان" التابعة لجمعية المحافظة على القرآن الكريم / الأردن؛ في الشؤون الأسرية والتربوية. وتكتب بشكل متقطع في العديد من المجلات العربية منها؛ البيان؛ الفرقان الكويتي؛ وأجيال السعودية إلى جانب العديد من المواقع الإلكترونية.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …