تتأكَّد الحاجة لدقة فهم ديننا الإسلامي الحنيف في هذا العصر، الذي أصبح كل شيء فيه علماً، بل ونضجت فيه العلوم إلى حدّ لم تعهده البشرية من قبل، وتقاربت فيه المجتمعات، وازداد تأثير بعضها في بعض، وتراخت قيمة الحدود الفاصلة بين الدول، ويسر فيه الحصول على المعلومات ونشرها، وكثر أدعياء العلم، يضاف إلى ذلك التباين الواسع في الفهم بين أبناء التيار الإسلامي؛ تبعاً لمناهجهم الفكرية والدعوية.
وتعدّ رسالة التعاليم من أهم ما كتبه الأستاذ حسن البنا رحمه الله، والتي تناول فيها أركان الدعوة وركائزها، وأوضح فيها واجبات الدعاة العاملين. وقد اعتبر في رسالته أنَّ الفهم هو الركن الأوَّل من أركان البيعة، ولم يكن وضعه أولاً عن دون قصد منه، بل لتأكيد أنّ الفهم أبو الأركان، وأسّ الركائز، وقال عنه معرفاً؛ إنما أريد بالفهم أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز.
وتناول الأستاذ حسن البنا ركن الفهم من خلال عشرين أصلاً، وأوضح الأصل الأول من أصول الفهم معلمتا الفهم للإسلام عند الإخوان المسلمين؛ فقال البنا في الأصل الأول: أنّ الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.
"يتشكل فهم الإخوان للإسلام من خلال معلمتي النظامية والشمولية، وهما علامتان فارقتان في دقة فهم الإسلام العظيم"
ويتشكل فهم الإخوان للإسلام من خلال معلمتي النظامية والشمولية، وهما علامتان فارقتان في دقة فهم الإسلام العظيم.
-
النظامية:
وتعني النظر إلى الإسلام من خلال أنه نظام، وهذا يعني وجود علاقات كثيفة ومستمرة بين مكوناته. وفرق كبير بين النظرة التجزيئية للإسلام والنظرة باعتباره نظاماً ينشىء علاقات تتميز بالكثافة والاستمرار، وأن كل عنصر ومكون فيه مرتبط بغيره لا ينفك عنه، وأن كل المخرجات ينظر إليها مدخلات لغيرها.
فالعبادات ترتبط بالأخلاق؛ فالله عزّ وجلّ قال عن الصلاة في كتابه العزيز ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر))، وسنجد أن الأخلاق ترتبط بالكسب؛ فرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام قال: ((رحم الله عبداً سمح إذا باع سمح إذا اشترى سمح إذا اقتضى))، والكسب يرتبط بالدولة والاقتصاد، والدولة ترتبط بالقوة والوطن؛ من ذلك سنجد أن العبادات إذن ترتبط بالوطن، والقوة ترتبط بالأخلاق،.. إلخ.
"كثيرون من يتحدثون عن الإسلام بصفته شاملاً، لكنه حديث الوصّافين، ولو قيّمت ممارساتهم العملية، لوجدنا أنهم يتعاملون مع الإسلام من خلال النظرة التفكيكية التجزيئية وليست النظامية"
حتى في النظر إلى العبادة ذاتها سنجدها نظاماً متكاملاً، فلها شروط وواجبات وأركان وهيئات ونواقض وأسباباً وعللاً. وذات الأمر لو نظرنا إلى الأخلاق أو الجهاد أو الحدود أو الثقافة لو جدنا جميع مظاهر الحياة في الإسلام هي أنظمة محكمة.
إنَّ هذا الفهم للإسلام من خلال النظامية يتسق مع مستوى التنظيم المعجز الذي خلق الله سبحانه وتعالى عليه الكون، فلو تأملنا في أنفسنا لوجدنا العديد من الأنظمة، وكذلك تعاقب الليل والنهار، وحركة الموت والحياة، وغيرها من جوانب.
كثيرون من يتحدَّثون عن الإسلام بصفته شاملاً، لكنه حديث الوصّافين، ولو قيّمت ممارساتهم العملية، لوجدنا أنهم يتعاملون مع الإسلام من خلال النظرة التفكيكية التجزيئية وليست النظامية.
-
الشمولية:
والشمول هو النظر للإسلام من خلال أنه يتناول جميع مظاهر الحياة، من دون تفريق في درجة أهميتها، فهي جميعاً سواء بسواء، والتي يمكن استيعاب هذه المظاهر في واحد وعشرين مظهراً؛ فالإسلام دولة، ووطن، وحكومة، وأمة، وخلق، وقوة، ورحمة، وعدالة، وثقافة، وقانون، وعلم، وقضاء، ومادة، وكسب، وغنى، وجهاد، ودعوة، وجيش، وفكرة، وعقيدة صادقة، وعبادة صحيحة.
فالإخوان ينظرون للإسلام باعتباره كل ما سبق من جوانب، وهذا الفهم الشمولي هو الذي أنتج أرقى حضارة عرفها تاريخ البشرية، سادت فيها قيم الحرية والعدالة، وعلت فيها المدنية الراقية.
إنّ هذا الفهم للإسلام من خلال النظامية والشمولية قد لا يعجب البعض، وهذا ما كان يتوقعه الأستاذ حسن البنا رحمه الله، وأشار إليه في رسالة بين الأمس واليوم حين قال: "سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام".