لقد منَّ الله على الإنسان بميزات عدَّة، وكلّ امرئ فينا له مواهب وصفات أودعها الله فيه قد لا توجد عند الكثير الكثير من الناس، وربما كانت ميزتك في شكلك ابتداءً أو ربما في صوتك وهذه صفات خلقية جبلها الله فينا منذ أن خلقنا ولا يد لنا فيها من ذكاء ومهارة وحذق.
وربما كانت هذه الموهبة التي أودعها الله فينا ناشئة من تطويرنا لأنفسنا وسعينا في بناء ذواتنا، فالشعر والكتابة والخطابة والحفظ والقوة وكل ذلك تحتاج إلى تنمية وتطوير وتعب وسهر، وغيرها الكثير من النعم التي أحاطها الله بنا والتي تكون حينا من الأحيان صفة عامة فينا نشتهر بها ونعرف من خلالها.
والإبداع في هذه الصفات قد يكون باكراً، أي في سن النشأة والتربية والتأهيل.
وهنا يجب على المربين العاملين في الحقول التربوية العديدة الانتباه جيداً إلى عدة نقاط في هذا الباب، قد يكون أهمها: أن يتنبه المربي لموهبة أحد طلابه لينميها ويربيها، والأمر الأهم وهو عدم تقديمه للصدارة قبل أوانه.
وهنا ينقسم المربون إلى أقسام ثلاثة: منهم من يبالغ مع الطالب، ومنهم من يقتل إبداع طالبه، ومنهم المعتدل الذي لا يقدمه إلا حين أوانه.
فليس المطلوب من هذا المقال أن نحجر على طلابنا وأن لا نخرجهم تحت الأضواء وأن يبقوا في السراديب بحجة أن ذلك أنجع لهم تربوياً وأن هذا كله من باب الحيطة والورع من أن يقعوا في الغرور والكبر بعد ذلك وغيرها من المهلكات التربوية، وفي المقابل ليس مطلوباً أيضاً أن يقدم الشيخ الطالب في كل مناسبة وكل حين أمام كل الناس وهو لم يأخذ قسطه التربوي بعد، تراه في المحافل مقدماً، ومع شيخه أينما ذهب، وبين أقرانه ممدوحاً معززاً، وإذا بك تراه بعد عدة أشهر قد تزين بعباءة مزخرفة من العجب والغرور ما جعله حتى يرى من شيخه شخصاً ضعيفاً أمام موهبته التي وهبها الله له، بل والتي نماها ورعاها له شيخه.
"قد تؤخّر تقديم هذا الطالب خشية على سلامة قلبه وطرداً لحظ نفسه؛ لأنه لم يأخذ نصيبه من التربية"
وبين البحرين حاجز، هو الوسط وهو العدل وهو الخير، وهو ما نسعى له في تلك العملية التربوية، فقد تؤخّر تقديم هذا الطالب خشية على سلامة قلبه وطرداً لحظ نفسه؛ لأنه لم يأخذ نصيبه من التربية حتى الآن، ولم يعرف معنى مجاهدة النفس، ولم يجرب مرة أن يقاوم حظوظ نفسه وشهواتها، ولم تستوِ بعد سرائره مع ظواهره في النيات والأعمال، وقد تؤخر تقديمه لحكمة تراها، خاصة إذا أردت أن تتجاوز قلة حكمة أقرانه بل وربما غيرتهم منه ودفعهم وكيدهم له، وقد تؤخر تقديمه حرصاً على علاقته مع شيوخه، وعدم تعاليه عليهم، خاصة إن فاق أحداً منهم في جانب معين وكان معروفاً عنه ذلك.
إنَّ الغلام الصغير والتربية كالثمرة على الشجرة، يبقى يأخذ منها حتى ينضج، فإن فصلته عن تلك الشجرة قبل أوانه ستجد طعمه مراً غير مستساغ، حتى لو أعجبك مظهره من بعيد، والخطورة هنا تكمن في أن هذا الغلام متى ما قدمته للصدارة قبل موعده، أي قبل نضجه وأخذه القسط الوافر من التربية فإنك كأنما نزعت الثمرة عن الشجرة قبل نضوجها، والمصير هو أن هذه الثمرة لن تستطيع أكلها والاستفادة منها، والأدهى من ذلك أنك لن تستطيع أن تعيدها إلى شجرتها لتكمل نضجها ونموها؛ فالتربية هي مراحل متتالية، وبناء تدريجي، لا يصح أن يتقدم شيء على شيء، ومتى ما دخل الغرور والكبر إلى ذلك الطالب ورأى من نفسه أنه أكفأ من شيخه وأنه نال ذلك بحرصه وتعبه وجهده فإنه بات من الصعب جداً أن تعيد تربيته مرة أخرى وأن يتدرج معك في منازل التربية واحدة تلو الأخرى.
"على المربّي أن يكون واعياً ومدركاً لأهمية تدرج الطالب في التربية، وأن لا يتعجل عليه في تقديمه أمام الناس"
وهنا يجب التنبه كذلك إلى عدم استصغار الفعل، فشيخ يقول لطالبه قم وأذّن في المسجد، وآخر يقدّمه للصلاة وهكذا، على اعتبار أنَّ هذه الأفعال بسيطة وليست ذات بال، وفي الحقيقة أنّها ليست صغيرة ولا بسيطة، فهي تفعل في قلب الصغير ما تفعله، عداك على أنَّ هذا الطالب قد لا يكون تربى على إتمام الطهارة والتورع عن النجاسات وما يلحق بها، ولقد رأينا من الغلمان من يؤم الناس في المسجد قدموه لجمال صوته وهو يرتدي الملابس الرياضية.
على المربّي أن يكون واعياً ومدركاً لأهمية تدرج الطالب في التربية، وأن لا يتعجل عليه في تقديمه أمام الناس، بل أن لا ينفك عن التوجيه التربوي له بين الفينة والأخرى، وهذا ما جعل كثيراً من المربين يرون خطأ تحفيظ الصغار القرآن بفترة زمنية قصيرة، لاحتمال دخول الغرور لقلبه دون أن يأخذ حظه الوافر من التربية، بل يرون أن الأصل تربيته السنوات الطوال بالتزامن مع تحفظيه للقرآن، وهنا يقول الشافعي:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ..... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ..... وصحبة أستاذ وطول زمان