لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي "عالماً افتراضياً" كما اصطلح مؤسسوها على تسميتها أو من يعرّفها بذلك، فيوماً بعد يوم يدرك المراقب عن كثب أنّ مواقع التواصل الاجتماعي من (فيس بوك، تويتر، إنستغرام... إلخ) باتت عالماً حقيقياً للكثير من مستخدميه.
من ملتقى للأصدقاء ومكان تبادل الحديث والحوارات والنقاشات وحتى "فضفضة قلب" لصديق، إلى نشر اليوميات الدقيقة الجميلة والبائسة، انتقادٌ وإعجابٌ، مدحٌ وذم، ويتعدى ذلك إلى نشر إعلان والبحث عن شواغر عمل ودورات تدريبية، إلى غير ذلك مما يصغر أو يكبر من تفاصيل الحياة اليومية، وقد يصل الأمر إلى معرفة أخبار أقرب الناس إليك من خلال هذه المواقع.
لذا لا ينكر المراقب لمستخدمي مواقع التواصل أنّ تواجد الناس وتبادلهم أطراف الحديث المهم منها وغير المهم بات على ما يسمّى "العالم الافتراضي" أكثر منه على العالم الحقيقي بكثير.
ولما كان من المفترض أن كل تجمع بشري أياً كانت صبغته (دينية أو اجتماعية أو سياسية..) لابد وأن يُنظّم بتعليمات مقننة (عرفية أو حكومية)، وذلك ضماناً للحقوق الشخصية بأنواعها ودرءاً للنزاعات والخصومة، ومع غياب هذه القوانين من قبل مؤسسي هذه المواقع أو تجاهل المستخدمين لها، أحببت أن أشارككم ما أسميتها بـ ذوقيات التواصل على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد اصطلحت على تسميتها بـ "ذوقيات" كونها غير ملزمة مني لأحد إلا أنها ملزمة لكل شخص بقدر ما يمليه عليه ذوقه وأخلاقه وطيب معاشرته لمن حوله، وهي كالآتي:
1. وهي أجلّها وأعلاها: استشعار مراقبة الخالق عز وجل في كل محتوى نتبادله مع الأصدقاء في السر قبل العلن، واستحضار قول الحق {ما يلفظُ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد} [ق:18].
وفي هذا النسق خط الشافعي أبياتاً يقول فيها:
وما من كاتبٍ إلا سيفنى... ويبقي الدهر ما كتبت يداهُ
فلا تكتب بخطك غير شيء... يسرك في القيامة أن تراه
2. طيب الكلام والبعد عن الفحش والذم والقدح واللعن والسباب، حتى ولو كنت مازحاً أو ساخراً من قضية أو حال، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ".
3. البعد عن التلميح والتعريض بالكلام، والتكلم بلغة بسيطة مفهومة لدى الناس، فمقصود التبادل المعرفي هو إفادة الأصدقاء، واختيار اللغة السلسة مما يضمن وصول الرسالة وصحة الفهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه".
4. البعدُ عن الجدال العقيم، وهو مالا فائدة ترجى منه سوى الرغبة بالانتصار، وقد ضمن رسول الله لمن ترك الجدال ولو كان محقا بيتاً في ربض الجنة.
5. الاعتدال في المجاملة، فمجاملة الناس وحسن معاشرتهم محمودة دون المغالاة فيها.
6. مراعاة مشاعر الآخرين، فمواقع التواصل كالمجتمع المدني فيها الفقير وفيها العاجز وفيها العازب والعازبة والمطلقة والأرملة، وفيها المحروم من عمل أو دراسة أو زواج أو ذرية، لذا فمن الذوق أن نراعي مشاعر الأصدقاء فيما ننشره من يوميات قدر المستطاع.
7. تجنب وصف الفتيات لبعضهن البعض على هذه المواقع التي فيها الرجال والنساء، فكما نهى الرسول عن ذكر المرأة لمحاسن امرأةٍ أخرى أمام الرجال فإن هذا الأمر لا يختلف عن ذاك، مثل أن تكتب إحداهن"كنتِ رائعة يوم زفافك" أو "طلعتي بتجنني اليوم بعرسك".!!
8. احترام عقل المخاطب والتأكد من صحة ما تنشر وتجنب تداول الإشاعات و"النسخ واللصق"، وفي المقابل كن متلقياً ذكياً.
9. كن لبقاً واسع الصدر، وتقبل الانتقادات برحابة صدر، ناقش حاور وانقد واحترم رأي الآخر.
10. احترم ملكية "المحتوى الرقمي"، فلا تسرق ولا تشارك محتوى غيرك من دون ذكر المصدر.
11. الصورة الشخصية تعبر عن شخصيتك وفكرك، وهي أول انطباع يتشكل في مخيلة الغير فاحرص على اختيارها اللائق.
12. الالتزام بالقواعد الإملائية والنحوية، فالأخطاء من هذا النوع تستفز القارئ فلا يكمل قراءة المحتوى، كما أنها تشوه مقصود الرسالة المراد إيصالها.
13. احترم رغبات الأصدقاء: تجنب إضافة الأصدقاء إلى "المجموعات" وإرسال "دعوات اللعب" بغير إذن منهم، فما يهمك قد لا يهمهم، واحترم خصوصية الذين يعتبرون "صندوق الرسائل" للأسئلة أو الاعتبارات الضرورية وليس للتعارف!
14. احترم رغبة الأصدقاء بالاقتصار على "بعض الأصدقاء" في قائمة الأصدقاء الخاصة بهم، ومن الناحية الأخرى يستحسن بالشخص الذي لا يرغب بتوسيع دائرة أصدقائه بيان ذلك وتوضيحه كما ينصح راينر فيلدر ويقول إن «إشارة رفض ودية تفيد بأنك ترغب في إضافة الأصدقاء المقربين فقط في قائمة الأصدقاء الخاصة بك نادراً ما تترك شعورا سلبياً».
باب الذوقيات واسعٌ جداً لا يحصر بنقاط ولا يقنن في مواد، إنما يتقلص ويتوسع بقدر الأخلاق التي يحملها كل شخص في دواخله، كما أنّ كل قوانين الأرض لا تجعل من شخصٍ إنساناً ذا ذوقٍ عال مالم ينبع ذلك من ذاته.
وأخيرا، بقدر ما يتمتع المرء بالذوق الرفيع في تعامله فإنه يصبح أقدر على بناء جسور الثقة والتفاهم والود والاحترام بينه وبين الآخرين، وأساس نجاح العلاقات بين الناس _من وجهة نظري_ هما الثقة والاحترام.