يروي البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي مسعود الأنصاري قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنِّي والله لأتأخَّر عن صلاة الغداة مِن أجل فلان ممَّا يطيل بنا فيها، قال: فما رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قطُّ أشدَّ غضبًا في موعظة منه يومئذ، ثمَّ قال: يا أيُّها النَّاس، إنَّ منكم مُنَفِّرِين؛ فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاس فليوجز، فإنَّ فيهم الكبير والضَّعيف وذا الحاجة".
لم يقتصر المنهج النبوي السمح على التخفيف في الصلاة بنهج التيسير في التشريعات، بل عمم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وطالب به بقوله الشريف: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا؛ يأتي هذا الأمر مؤكداً لوحي السماء وما نزل من الآيات القرآنية التي أكدت على أن الدين يسر وذلك بقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} والعديد من النصوص القرآنية التي حافظت على هذا المبدأ.
الأمة وتجديد الأسلوب الدعوي
يفتتح الداعية الدكتور ابراهيم المنسي حديثه لـ"بصائر" بالتأكيد على أن توصيات النبي العظيمة التي أمرت بالتيسير والتبشير تؤصل نهجاً عظيماً لا يتنافى مع الاتجاهات العلمية الحديثة في السلوك الإنساني؛ والتي تدفع باتجاه البساطة والتيسير، وما جاء الدين إلا يسراً لا عسراً محققاً للسعادة لا للشقاء لقوله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}.
ويضيف المنسي أن التيسير والتبشير هي عمليات تحفيزية للجذب، خاصة في زمن ابتعد اﻵباء واﻷمهات والأساتذة والمربون والحكام والأنظمة والموجهين للبشرية عن عرى الدين؛ فما بقي للدعاة سند يعزز مسيرة الدعوة إلا أن يقدموا الدين بحلته الجاذبة والحافزة للجيل الذي ماعاد يجد من يوجه للدين إلا القلة القليلة، وهذا لا يعني إهمال جوانب الترهيب المحققة للتوازن لكن على الدعاة أن يرغبوا بالدين عبر الكلام والموعظة الحسنة وأن يرهبوا بدفع الناس للمشاهدة بأعينهم؛ كمشاهدة الموت ومشاهدة المرضى ومشاهدة أصحاب المصائب وحالهم ومآلهم؛ فهذا يجعل الميسر والمبشر أقرب للنفوس البشرية وبالتالي أكثر تأثيراً وتوجيهاً للسلوك.
ويؤكد الدكتور المنسي على أنه لا شك أن الإنسان كلما أخذ بالعزيمة وصبر عليها كلما كان أكثر أجراً، لكن هذا لا يعني أن من يأخذ على نفسه العزيمة ينكر على غيره حين يأخذ بالترخص، فهذا من شأنه التنفير من صاحب العزيمة من ناحية ومن الدين من ناحية أخرى.
ويشير المنسي إلى أن الفهم الخاطئ للنصوص يؤدي للكثير من السلوكيات الخاطئة باسم الإسلام؛ فالأمة بحاجة لفتح باب التفكير والاجتهاد على مصراعيه لتحقيق التجديد الذي هو دعامة الدين لتستفيد منه البشرية جمعاء، وحينما نقرأ حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم "يبعث الله على رأس كل مئة عام من يجدد للأمة دينها" فإن هذا الحديث يدلني إلى أنني معني باتباع مجدد لا باتباع مقلد... فالبشرية اليوم باتساعها الجغرافي والديموغرافي والتقني والفكري والأيدولوجي أحوج ما تكون إلى المجددين الذين يبرزون مقاصد الشريعة من حفظ للدين والنفس والنسل والمال والعقل بكل اقتدار.
ويختصر منهج النبي صلى الله عليه وسلم السمح اليسير بقصة الرجل الأعرابي الذي سأل وقال يا محمد إن صليت وزكيت وحججت وصمت أدخل الجنة؟ فقال النبي أجل.. فقال الأعرابي والله لا أزيد عليها شيئاً.. فقال النبي: أفلح إن صدق الأعرابي.
"د. الزقيلي: الإسلام دين عمل وحياة، وتشريعاته تؤدي للجنة ولا يصح إغلاق بابها بالتشديد على العباد"
الداعية الدكتور عماد الزقيلي أكد على أن الدين يسر ورحمة وأنه أبعد ما يكون عن التعسير والحرج، والأدلة على هذا العنوان العريض كثيرة مبثوثة في آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185].
وما جاء في السيرة من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (رواه البخاري).
ويؤكد الزقيلي أن استعراض المواقف النبوية الدالة على هذا المقصد؛ مقصد التيسير والتبشير أكثر من أن تحصى في مثل هذا المقام، منها قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، ومنها عدم خروجه لصلاة القيام جماعة في المسجد خشية أن تفرض عليهم، وغيرها كثير.
وعند استعراض مظاهر التيسير في العبادات نجدها دليلا على سعة مساحة التيسير فيها؛ فالتيمم سعة عند فقد الماء حتى قال الفقهاء: (إن الأمر إذا ضاق اتسع)، فإذا ضاق عليهم بفقد الماء أو عدم القدرة على استعماله جاز لهم التيمم بالتراب وعند ذلك يكون قد اتسع لكثرة التراب.
ويضيف أن لا غرابة في هذا الحجم من التيسير والرحمة فإن ديننا دين عمل وحياة وواقع ومن مقاصد الدين دفع الناس إلى الجنة وليس سد الطرق إليها.
التفلت من أحكام الإسلام بذريعة التيسير:
و في الوقت نفسه يحذر الدكتور الزقيلي من مغبة التفلت من أحكام الإسلام والولوغ في المحرمات وتضييع الواجبات، فعندئذ يصير الأمر تفريطاً وفسوقاً وليس تيسيراً ورحمة، فالنبي ـصلى الله عليه وسلمـ كان يختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً، وتضييع الواجبات أعظم الآثام.
ويضيف الزقيلي: بالرغم من التشديد الملاحظ في هذه الأيام إلا أن المشكلة الأعظم ـ برأيي ـ هي التفريط والتساهل في أحكام الدين والتفلت من الواجبات الشرعية. وهذا يوجب علينا أن نوازن في خطابنا للمدعوين بين الفريقين المذمومين: أصحاب الإفراط وأصحاب التفريط، حتى لا نمنح أهل التفريط ذريعة لتضييعهم الشعائر والعبادات.