جزء من قول مشهور يتداوله أهل السنة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث قال: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".
وفي رواية أخرى، أنه قال: "لا يقلدنّ أحدكم دينه رجلاً، فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، وإن كنتم لابد مقتدين، فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة".
وفي الحقيقة أن هذا القول يمثل عصمة من الزلل لعموم الأمة، خصوصاً حال انحراف بعض أهل العلم عن جادة الصواب. ففي الأعوام الأخيرة، فوجئ الكثير من الناس بمواقف بعض الدعاة والعلماء تجاه مطالب الشعوب العربية بالحرية واسترداد الحقوق المسلوبة، مما أصاب البعض بالصدمة والتعجب، وجعل تعاملهم مع هذا الأمر مختلفاً ومتنوعاً، بل ومتناقضاً في بعض الأحيان.
إن قول ابن مسعود رضي الله عنه يمثل منهجاً يسير عليه كل متبع لهذا الدين، أن لا عصمة لأحد، كما أنه لا يتصور للإنسان -مهما بلغت منزلته ودرجته العلمية- أن يكون فوق الخطأ، أو بعيداً عن الانحراف عن الصراط المستقيم.
"الإنسان يبقى ذاك الشخص المعرض للخطأ والزلل، ذو الشهوات والمعاصي، ومن يوسوس له الشيطان، وصاحب نفس قد تحب وتفضل متاع الدنيا القليل على ما عند الله من النعيم المقيم"
فالإنسان يبقى ذاك الشخص المعرض للخطأ والزلل، ذو الشهوات والمعاصي، ومن يوسوس له الشيطان، وصاحب نفس قد تحب وتفضل متاع الدنيا القليل على ما عند الله من النعيم المقيم.
لا منافاة مع الثقة
لا يفهم من كلامي أنني ضد الثقة بالآخرين، أو إحسان الظن بهم، أو اتباع خطواتهم إذا كانت على الطريق المستقيم الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم وسار عليه أتباعه من بعده. كما أن الإسلام طالبنا أن نتعامل مع الأمور وفق ظواهرها، دون خوض في النوايا، أو تغليب لسوء الظن.
فالله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات:12].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" (رواه البخاري).
وفي تعليقه على ما سبق من نصوص، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "وسبب تحريمه –سوء الظن- أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته. وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإنما الشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق".
وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن الثقة بالآخرين، وتبرير أفعالهم، والتماس الأعذار لهم، وإحسان الظن بما يقومون به، منهج سليم، طالما لم يكن الخطأ بيناً واضحاً بما لا لبس أو شبهة فيه. وما سبق من كلام يتحدث عمن وقع في التناقض الواضح مع أحكام الإسلام وتعاليمه وفلسفته وروحه، التي بينها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، أو صحابته رضوان الله عليهم، أو من تبعهم من التابعين وأهل العلم الأجلاء رحمهم الله.
"إن إعمالنا لمنهج الثقة وإحسان الظن، لا يعني تبرير الوقوع في الخطأ، بل الأصل أن نقف مع الحق أينما دار، ولا نؤيد الباطل والمنكر، حتى لو قام به أعلم الناس وأتقاهم"
إن إعمالنا لمنهج الثقة وإحسان الظن، لا يعني تبرير الوقوع في الخطأ، بل الأصل أن نقف مع الحق أينما دار، ولا نؤيد الباطل والمنكر، حتى لو قام به أعلم الناس وأتقاهم –حسب ظننا- وإلا صار الإنسان "إمعة" يتبع الناس دون مراعاة لصواب أو خطأ.
صور مرفوضة
رغم النصوص الواضحة التي تدعوا إلى إحسان الظن، وفي الوقت نفسه عدم الوقوف مع المخطئ وعدم عصمته عن الوقوع في الزلل، إلا أن هناك ثلاث صور تخالف ما تقدم، وتتمثل بالآتي:
الصورة الأولى: تفسير المواقف بطريقة سلبية، واعتماد سوء الظن كأساس لتفسير النوايا، بالإضافة إلى تضخيم الأخطاء الصغيرة، وعدم فهم طبيعة المسائل التي ينكرون عليها خصوصاً في المسائل الفقهية، أو المبنية على المصالح والمفاسد والتي تختلف فيها الأنظار. فما لا قطع فيه، لا إنكار فيه. ولا بأس بإبداء وجهة النظر بضعف الرأي الآخر، وقوة حجة الرأي الذي نتبناه، فهذا هو المنهج السليم الذي أصّله الإسلام، وسار عليه أهل العلم.
"الدفاع المستميت عن المخطئ، يولد التأييد الأعمى، والكبر والعناد ورفض الإقلاع عن المنكر، وهو رفع لبشرية أولئك وعاملاً مساعداً على زيادة المنكر وانتشاره"
الصورة الثانية: الدفاع عن المخطئ بطريقة مستميتة تجعله يصر على الخطأ، وتشجعه على الاستمرار به، وهي واحدة من المآسي المنتشرة في وقتنا الحالي، خصوصاً من أتباع بعض الدعاة والمشايخ، بحيث يولد هذا التأييد الأعمى، الكبر والعناد ورفض الإقلاع عن المنكر. وما هذا إلا ضرب من رفع لبشرية أولئك، وبدل أن يكونوا عامل نصح وتصويب لهم، يصبحون أداة وعاملاً مساعداً على زيادة المنكر وانتشاره.
الصورة الثالثة: إسقاط عدالة الأفراد بالكلية عند وقوعهم بالخطأ، فلا يعني وقوع المسلم في الخطأ زوال فضله وأعماله الصالحة. ومع بالغ الأسف فبعض الناس يتعاملون مع الآخرين على حرف، فإن عصوا ووقعوا في الزلل مرة، ألغوا مصداقيتهم بالكامل، ولم يقبلوا لهم توبة أو تراجعاً عن ذات الخطأ!!.
إن ما يتناسب مع فلسفة الإسلام وروحه، أننا حينما نقف ضد من انحرف عن الطريق الصحيح، فإننا نهدف للحفاظ على ديننا ونحمي الآخرين من الوقوع في ذات الخطأ، لكن لا يصح إغلاق باب الرجوع إلى الحق، فنحن حريصون على عودة العصاة لدينهم رغم ما وقعوا فيه من ذنوب، فكيف بمن خدم دينه وعمل له ثم وقع في الخطأ، ولو كان كبيراً!!.
ختاماً.. لا يفهم من كلامي أنني مع تقليل الأخطاء، خصوصاً الكبيرة، أو الاستهانة بها، لكن لابد أن نسير بين منهج واضح يجمع بين الثقة وحسن الظن، وعدم العصمة لأي شخص من الخطأ والانحراف.