الإرادة الشعبية .. الحاضنة الرئيسية للمقاومة الناجحة

الرئيسية » بصائر الفكر » الإرادة الشعبية .. الحاضنة الرئيسية للمقاومة الناجحة
580

تُعتبر المقاومة واحدة من ظواهر العمران البشري وإحدى قوانينه، وتمثل ركنًا ركينًا من أركان سُنَّة التدافع التي وضعها الله عز وجل في الأرض، من أجل الحفاظ على الحياة والعمران، ومواجهة الفساد والإفساد.

وككل شيء في ظواهر وقوانين العمران البشري؛ فإن هناك أسس وقواعد حتمية تسير وفقها هذه الظواهر، وترتكز عليها هذه القوانين، وتحمل في طياتها صُلب أسباب النجاح وقواعده.

ومن بين أهم هذه الأسس والقواعد التي ترتكز إليها منظومة المقاومة الناجحة، هي الحاضنة الجماهيرية، التي تعمل على تصليب الطليعة المقاوِمة، وتعضيد موقفها بالإرادة الشعبية.

"المقاومة لابد من أن تخرج من رحم الشعوب، فهي طليعة لها؛ تعبر عن آمالها وطموحاتها في التحرر والعيش بحرية وكرامة، والتقدم؛ وإلا فإن مصيرها الفشل"

وعندما نقول الطليعة المقاوِمة؛ فإننا نؤكد تلقائيًّا على نقطة شديدة الأهمية، وهي أن المقاومة –حتمًا– لابد من أن تخرج من رحم الشعوب، فهي طليعة لها؛ تعبر عن آمالها وطموحاتها في التحرر والعيش بحرية وكرامة، والتقدم؛ وإلا فإن مصيرها الفشل؛ لأنه وقتها سوف تكون جماعات المقاومة عبارة عن عدد بسيط يواجه وحده قوى الاستكبار والفساد، سواء القادمة من الخارج، أو الكامنة في الداخل.

ولقد ظهر ذلك في أكثر من تجربة تاريخية، قديمة ومعاصِرة؛ فلولا الإرادة الشعبية التي كانت على استعداد للتضحية بكل شيء، حتى الحياة نفسها، ما انتصرت فيتنام التي واجهت أكبر قوة في التاريخ، وهي الولايات المتحدة، بترسانتها العسكرية، التقليدية وغير التقليدية، وما دفعت الملايين من دماء أبنائها، ما بين قتيل ومعاق.

إن ستين ألف غارة، ومليون وخمسين ألف طن من القنابل أُلقيت في عام واحد على فيتنام الشمالية، لم تفلح في ثني عزيمة وإرادة عزيمة الشعب الفيتنامي؛ مما اضطر الأمريكيين في النهاية إلى التفاوض على الانسحاب.

ولولا الإرادة الشعبية -أيضًا- ما صمدت غزة حتى الآن، وهزمت قوات الاحتلال الصهيوني أكثر من مرة، باعتراف جنود بني صهيون أنفسهم، بالرغم من تكالب الجميع، حتى ذوي القربى، على أهل غزة المحاصرين، إلا أن الإرادة الشعبية الباسلة الصلبة، أثبتت أن غزة هي التي تحاصر الجميع، بما في ذلك مطار بن غوريون ومفاعل ديمونة، ذاته، رمز دولة الاحتلال وسطوتها!

"تكتسب قضية غرس ثقافة المقاومة داخل المجتمعات مكانة عظمى عند المخططين والقادة الذين يضطلعون بمهام ومسؤوليات قيادة الطليعة المقاوِمة"

إن هذه التجارب، وغيرها، لترد على كل المشككين السائرين في المدينة، في الوقت الراهن، ممن يساومون على حقوق الشعوب، في فلسطين، وفي غيرها من البقاع المغبونة باحتلال خارجي، أو بأنظمة قمعية فاسدة تسرق الثروات وتقتل الأبناء، في نيل حريتها واستقلالها.

ومن ثَمَّ؛ تكتسب قضية غرس ثقافة المقاومة داخل المجتمعات مكانة عظمى عند المخططين والقادة الذين يضطلعون بمهام ومسؤوليات قيادة الطليعة المقاوِمة.

وهذا الأمر أولى به الأمة العربية المسلمة، ويكتسب بالنسبة لها ضرورة كبرى في ظل التغول الراهن للمشروع الصهيوني في فلسطين، ومخططاته للتوسع خارجها، وانتقال قوى الاستعمار والاستكبار العالمي إلى مرحلة جديدة من العبث بمقدرات الأمة.

ويزيد من أهمية العمل على غرس ثقافة الفعل المقاوِم في مجتمعاتنا، حالة الركود التي طالت قرونًا بفعل عدد من العوامل، من بينها ظهور مدارس تجذَّرت في المجتمعات العربية والإسلامية، تدعو للركون وعدم الخروج على الحاكم، مهما زاد ظلمه.

أما في عصرنا الحديث، فلقد كرست العديد من الهزائم المتتالية أمام الكيان الصهيوني، منذ حرب عام 1948م، وفي حرب 1967م، هذا الإحساس الضروري بأهمية المقاومة وجدواها.

على المستوى الداخلي، كان لغياب الحياة السياسية السليمة، التي تعمل على خلق مجتمع يعرف حقوقه ويسعى إليها، دور كبير في حالة الركود والركون هذه.

سهلت هذه الحالة كثيرًا من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، وكان مشهد احتلال بغداد كفيلاً، لو كانت روح المقاومة متأصلة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بأن تخرج الأمة بأكملها تسعى إلى تصحيح هذا الوضع.

وكانت لمحة الأمل التي استجدت وأضاءت ظلمات طالت، عندما خرج أطفال فلسطين بصدروهم العارية، لا يملكون سوى إيمانهم وحجارتهم، في مواجهة المحتل الصهيوني، في مشهد هز ضمير العالم بأكمله خلال الانتفاضة الأولى، ثم صمود غزة الأسطوري.

وهو أمر من السهولة بمكان لو تم تأسيس برنامج تربوي وسياسي وإعلامي حركي، يعمل على غرس هذه القيمة المقاومة، في نفوس النشئ الجديد الصاعد، وتعويده على مبادئها الأساسية، مثل التضحية والفداء، والترفُّع عن متاع الدنيا.

فالمقاومة فطرة إنسانية لا يمكن إنكارها، فهي ضرورية لرد العدوان، سواء من خلال الاستعداد لمنعه منذ البداية، أو مواجهته لو وقع، وذلك لكي لا يكون العنف والعدوان وسيلةً لاجتياح الأوطان، واختراق الأمم وخصوصياتها.

فالمقاومة مانعة ورادعة أولاً، وإذا لم تفلح في ردع أو منع الأعداء؛ تنشئ سُنَّة التدافع ضد العدوان والمعتدين، حتى يفقدوا القدرة على الاعتداء.

"المقاومة مانعة ورادعة أولاً، وإذا لم تفلح في ردع أو منع الأعداء؛ تنشأ سُنَّة التدافع ضد العدوان والمعتدين، حتى يفقدوا القدرة على الاعتداء"

فالمدافعة هي المقاومة الفورية اليقظة التي تتحول من الحراسة إلى الصدِّ والدفع حتى تفشل محاولات العدو ومغامراته.

وهناك ألوان عدة من المقاومة في هذا الإطار، مثل المقاومة الفكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية، وصولاً إلى الشكل العسكري المباشر للعمل المقاوِم؛ حيث من أهم صور المقاومة، هي المقاومة الشعبية المسلحة، وهي التي تعني نهوض طليعة من أبناء المجتمع والأمة بالسلاح في مواجهة المعتدين والغزاة.

وفي شرعنا الحنيف؛ يؤكد العلماء المسلمون، ومنهم الشيخ جمال قطب، والدكتور القرضاوي، والدكتور جمال عبد الستار، وغيرهم من صفوة علماء الأمة الثقات، إن المقاومة فرض عين على جميع المكلَّفين، بل إن تجفيف منابع العدوان ذاتها، فريضة على كل قادر.

على أن للمقاومة طليعة وإجراءات، فالأسرة المسلمة هي النواة الأولى لتشكيل ثقافة المقاومة في وجدان المجتمع، وهناك المجتمع المدني الذي يدعمها، وهناك الإعلام الذي يعمل على غرسها لدى مختلف شرائح المجتمعات.

وأخيرًا؛ فإن المقاومة طبيعة كونية، وسُنَّة إلهية في جميع المخلوقات، فهي أكبر آليات الحفاظ على الكون وما فيه، بل هي الضامن الأول لاستقرار الحقوق في يد أصحابها، وهو أكبر باعث على تعضيدها بالإرادة الشعبية، فقط لو تم تنوير الجموع والجماهير بذلك كله.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (2-2)

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:- توطئة عن الموضوع. …