من بين أبرز الأمراض الحركية في الوقت الراهن، ما يمكن أن نطلق عليه مسمى سيطرة النظرة المثالية أو النموذجية أو الـ"Idealism" على رهانات وتفكير الكثيرين، وخصوصًا الشباب، بحيث يفكر البعض من هذه النوعية من الصف، وفق مبدأ "أنا أدعو إلى قيمة؛ فإني لابد أني منتصر"، أو "أنا أدعو لدين الله، وأحارب عنه؛ فإنه ولابد ناصرني"، ولكنه يقف عند مستوى هذا التصور، من دون القيام بما يلزم لتحقيق ذلك.
يٌطلق على ذلك في الفكر السياسي الطوباوية، وهو تعريب موفق لمصطلح "Utopianism" أو اليوتوبية، وهي البلد المثالي الذي لا شر ولا سوء فيه، ويحمل السعادة للناس، وفي الإسلام هي إشارة إلى الجنة، والسعادة الأخروية، للمؤمنين ممن اتقوا ربهم {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [سُورة الرعد:29]. وفي الحديث الشريف: "بدأ الإسلام غريبًا ثم يعود غريبًا فَطُوبَى للغرباء" (أخرجه الطبراني في الكبير). والغرباء، هم المصلحون إذا فسد الناس.
ومن الآية والحديث؛ فإن اليوتوبيا لا تتحقق في الدنيا، وإنما محلها الآخرة، ولكن عملها في الدنيا.
فالآية تقول إن الطوباوية في المصير، سوف تكون في الجنة، في الآخرة، بعد أن يوفى الناس حسابهم، كذلك الحديث؛ حيث إن الخاتمة الحسنة في الجنة، هي ثمرة عمل الدنيا.
والمعنى واضح؛ حيث العمل هو الأساس، وأهم مرتكزات العمل الناجح هو الواقعية، والواقعية تقود إلى الحركية الناجحة في كل أمور الإنسان، العامة والخاصة، وبالتالي، ووفق سُنَّة التراكم؛ فإن الحراك الناجح للمجتمعات والأمم؛ يكون ثمرة العمل الحركي الناجح المنبني على التفاعل السليم مع الواقع.
وهو أمر بديهي؛ فالإنسان لا يمكنه السير في الصحراء بسيارة مكشوفة أو من دون مظلة، ولا يمكنه التحرك في الوديان الجليدية من دون أرضية خاصة تقيه قضمة الصقيع، أو من دون زحافة أو مجنزرة، وهي الآلة المناسبة للتحرك في الواقع المحيط به؛ حيث لا يمكن أن تسير السيارات ذات الإطارات المطاطية العادية، ولو فعل أي إنسان خلاف ذلك؛ فإما أن يحترق بنيران لهيب الشمس في الصحراء، أو يضيع حتى الموت وسط أطنان الجليد المتراكم حوله.
" الاعتراف بالواقع، ليس هو أول مراتب النجاح؛ بل إنه هو أساس النجاح"
ومن ثَمَّ؛ فإن الاعتراف بالواقع، ليس هو أول مراتب النجاح؛ بل إنه هو أساس النجاح، والاتجاه الواقعي تدعمه الحركة؛ فلا يكفي أن أدرك أن هذه صحراء لكي أسير فيها ولا أحترق؛ وإنما يجب أن أعد لها العدة، مثل الملابس والعربة وسائر الأدوات الملائمة التي تمكنني من اجتيازها.
ولا يعني ذلك تجاوز الجوانب القيمية والأخلاقية التي حتَّمها الله عز وجل على المسلمين كأمة التكليف؛ فالاعتراف بالواقع لا يعني التماهي معه ومواءمته في كل الأحوال؛ فالإصلاحيون وحملة رسالة التغيير، عبر التاريخ، سعوا إلى تغيير الواقع القائم، ورده ورد أحواله إلى الإطار الأخلاقي الذي تنزلت به الرسالات السماوية، أو جعله الله عز وجل في فطرة البشر.
ولكن الاعتراف بالواقع – كما تقدم – يساعد على إيجاد الأدوات اللازمة للتعامل معه، وإصلاح ما فيه من مفاسد واعوجاج.
هذا يفرض جانبًا حركيًّا آخر مهمًّا، وهو المتعلق بالمبادرة والإيجابية؛ فلا يمكن للمسلم الحركي الفعَّال في محيطه الضيق أو الواسع، أن تكون مواقفه عبارة عن ردَّات فعل فحسب؛ وإنما مفروض عليه المبادرة بمعنى المبادأة ولا ينتظر من خصومه أو ظروفه أن تتحرك لكي يتحرك هو، ولكنه عليه أن يصنع واقعه، ويطوِّع من واقع الآخرين لصالحه، ولصالح مشروعه.
ويتطلب ذلك أمورًا عديدة، مثل إعداد العدة الملائمة لهذا الواقع، أو بمعنى أدق، تجهيز الأدوات والآليات المناسبة لتغييره، وكذلك حسن التخطيط والتنفيذ، والذي يراعي المتغيرات، المتوقَّعة أو تلك المفاجئة، وكلها أمور يجب أن تنطلق من نظرة واقعية للحال الراهن.
" ينبغي على المسلم الحر أن يصنع واقعه، ويطوِّع من واقع الآخرين لصالحه، ولصالح مشروعه، ولا تكون مواقفه عبارة عن ردات فعل فحسب"
وهي كلها – أيضًا – قوانين حركية شديدة الأهمية، وتدخل في نطاق سُنَن التدافع والعمران التي وضعها الله عز وجل في خلقه.
والحركة الإسلامية هي أولى من غيرها بإدراك هذه الأمور، فهي أمة التكليف، ومعنى ذلك أنها هي الأولى بالحركة في هذا العالم، من أجل نشر دين الله عز وجل، وتحكيم شريعته، وإعمار الأرض، وهي كلها مهام لا يمكن أن تتم من خلال القاعدين المتأملين، من أصحاب النظرة الفلسفية المجرَّدة للكون، وغير المتفاعلين معه.
وموقف عمر بن الخطاب "رَضِيَ اللهُ عَنْه" من جماعة المسلمين الذين كانوا قاعدين في المسجد ينتظرون الرزق أن يصل إليهم، بدعوى التوكُّل على الله عز وجل، يصلح للاستدلال في هذا الأمر، فهو "رَضِيَ اللهُ عَنْه"، لا يؤكد في كلامه لهؤلاء على أهمية قيمة العمل فحسب؛ وإنما هو يؤكد على قيمة الفعل الحركي في تغيير واقع الناس، وأن كونهم مسلمين، لا يعني أن يتنزَّل عليهم الرزق من دون سعي أو حركة.
ويشاء قانون الكون الذي خلقه الله عز وجل ألا يتم شيء من دون حركة، فحتى أهون شيء يظنه الإنسان، مثل نمو النبات؛ لا يتم من دون حرثٍ وبَذْرٍ وسقيٍ، وحتى ما ينبت من نبات بمفرده؛ يتم بواسطة حركة الحشرات المستفيدة منه، مثل النحل الذي ينقل حبوب اللقاح عبر الأودية الخضراء والمزهِرة، لكي يحصل النحل على غذائه، فالنحل سيموت ما لم ينتقل من مكان لآخر، ومن زهرة لأخرى، فيلقح هذه بتلك، فينمو النبات الذي يتغذى عليه النحل من جديد.
فحتى سُنَّة الطبيعة والمخلوقات غير البشرية الأخرى؛ قدر الخالق عز وجل فيها درس الحركة والمبادرة والفعل البناء الإيجابي؛ لأجل أن تستمر دائرة حياتها.
وفي الأخير؛ فإن التصورات الطوباوية لا تصلح لبناء مواقف سليمة، ولا اتخاذ سياسات صواب فيما يُعرَض على الإنسان والأمم من قضايا وأمور عظيمة ومهمة، ولكن التعامل مع الواقع فقط، ووفق المنهج في الحالة الإسلامية، هو ما يضمن ذلك.
فالتصورات المثالية تصلح فقط لجلسات الصالونات الخاصة، أو مع كتاب تقرؤه، أو عالِم تناقشه، أما قضايا الواقع؛ فلابد لها من واقع مماثل للتعامل معها!